أهمية التوجيه المهني في زمن الكورونا

يتساءل الكثير من الطلبة عن التخصص المهني الذي سيلتحقون به. ما الذي يتناسب مع ميولهم وقدراتهم؟ وهل سينجحون في اختيار التخصص الصحيح؟ هل سيحققون الأحلام التي رسموها؟

ولكن، كم من طالب مقبل على التخرج لا يعرف بعد أين نقطة الانطلاق إلى الحياة العملية؟ وكيف سيحصل على الوظيفة التي تتوافق مع ما يمتلكه من مهارات واستعدادات؟

“التوجيه المهني” يقدم الإجابة عن كل هذه الأسئلة. فمن خلاله، يتمكن الطالب من اتخاذ القرار المهني السليم، واختيار المهنة المناسبة لقدراته وميوله، والإعداد لها، والالتحاق بها، بما يحقق التوافق المهني، ويزيد احتمالات النجاح والتقدم والتطور، على الصعيدين الفردي والمجتمعي.

كان فرانك بارسونز، مؤسس حركة الإرشاد المهني والملقب بـ “أبو الإرشاد المهني”، أول من تحدث عن أهمية اختيار المهنة “Choosing a Vocation” في كتابه الذي يحمل نفس العنوان، ويُعتبر من أمهات الكتب في مجال الإرشاد المهني، وذلك بالولايات المتحدة الأمريكية في أوائل القرن العشرين. في كتابه، حدد بارسونز ثلاث خطوات لاختيار المهنة، أولها دراسة إمكانات الفرد وقدراته واستعداداته وميوله، ثم دراسة المهن المختلفة وما تحتاج إليه من متطلبات واستعدادات. أما الخطوة الثالثة فتتمثل في “المواءمة”، أي وضع الفرد المناسب في المهنة المناسبة.

وتعتبر ثقافة التوجيه المهني شيئًا جديدًا على مجتمعنا، ومن المعلوم أن عملية غرس ثقافة جديدة تنطوي على تحديات ومصاعب جمّة تفوق تلك التي يقتضيها الأمر لتغيير ثقافة موجودة أصلاً، ويتجسد ذلك بوضوح في خلق مفهوم تخطيط وتطوير الحياة المهنية لدى الشباب في قطر. وبالرغم من جهود التوجيه المهني المبذولة في دولة قطر إلا أنه لا يوجد إطار عمل موحد وشامل ينظم تلك الجهود، حتى في ظل التطور الكبير الذي يشهده القطاع التعليمي، والذي بلغ مستويات عالمية، بحيث تصدرت قطر قائمة أفضل الدول من حيث جودة نظام التعليم عربيًا، كما حققت المركز الخامس عالميًا وذلك حسب تقرير التنافسية لـ 2017-2018.

وإذا نظرنا إلى تلك الأرقام فسنجد أنها تعكس الاهتمام الكبير لقيادتنا الرشيدة بالقطاع التعليمي، حيث خصصت الحكومة حوالي 19 مليار ريال لقطاع التعليم في موازنة 2019، بما يعادل 9.4% من إجمالي الإنفاق. كما تتوقع تقارير اقتصادية نمو الاستثمارات بالمدارس الخاصة في قطر لحوالي ثلاثة أضعاف في 2020، بالتزامن مع ارتفاع في إجمالي الطلبة الملتحقين بالمدارس في قطر لحوالي 392 ألف طالب بحلول 2022 بمعدل نمو 3.9%. وهذه كلها مؤشرات توحي بأهمية التطوير والتوجيه المهني في قطر أكثر من ذي قبل، حيث ستحتاج تلك الأعداد المتزايدة من الطلبة إلى التوجيه والإرشاد المهني الصحيح، لتتحول إلى قوة عمل دافعة، تساهم في رفد الاقتصاد الوطني بالمهارات والقدرات التي تغطي احتياجات سوق العمل ومتطلبات التطور الاقتصادي، سواء في الظروف العادية أو في أوقات الأزمات، كالتي نمر بها حاليًا مثل الحصار الجائر على دولة قطر وأيضًا أزمة انتشار فيروس كورونا (كوفيد-19).

هنا يتجلى الدور الوطني الهام الذي يلعبه مركز قطر للتطوير المهني، أحد المراكز التابعة لقطاع تنمية المجتمع بمؤسسة قطر، والذي يحمل على عاتقه مسؤولية نشر المعرفة والخبرات المهنية المتخصصة، وتدريب وتأهيل كوادر وطنية قادرة على النهوض بعملية التوجيه المهني، من أجل تمكين الشباب في دولة قطر. وقد استفاد من هذه الجهود آلاف الأشخاص من مختلف الفئات في جميع أنحاء الدولة، ما بين طلبة، وخريجين، وأولياء أمور، ومرشدين مهنيين، وأكاديميين، وغيرهم من المهتمين بمجال التوجيه والتطوير المهني.

وتبرز جهود مركزنا اليوم أكثر من أي وقت مضى، حيث أثبتت الظروف الاستثنائية التي يواجهها العالم أجمع، بفعل انتشار فيروس كورونا (كوفيد-19)، صحة الخيارات التي اعتمدناها من أجل توفير خدماتنا إلكترونيًا، وخاصة نظام الإرشاد المهني الإلكتروني الخاص بنا، والذي يتضمن العديد من الوحدات المتنوعة والمكونات المبتكرة وأدوات القياس النفسي وتحليل الشخصية التي من شأنها مساعدة أبنائنا على التخطيط الأمثل لمستقبلهم الأكاديمي والمهني. ويوفر النظام كافة الأدوات بشكل إلكتروني دون الحاجة للتواجد خارج المنزل.

والواقع أنه، رغم الجهود الضخمة التي تم بذلها حتى الآن، إلا أننا لا نزال أمام مسار طويل من العمل لتطوير فهم مجتمعي بأهمية التوجيه والتطوير المهني، والتغلب على مجموعة من التحديات التي تواجه عملنا. ولعل أبرز هذه التحديات اعتماد الطلبة بشكل كُلي على مشورة الأهل والأقارب والأصدقاء بدلاً من اللجوء للمختصين عند اختيار مسارهم المهني. وقد أشار تقرير سابق أصدره مركز قطر للتطوير المهني، بالاعتماد على دراسات واستطلاعات للرأي تم تطبيقها على المجتمع القطري، أن 65% من الطلبة توجهوا إلى أولياء أمورهم للحصول على المشورة المهنية، و41 % من الطلبة الجامعيين والخريجين حصلوا على المشورة المهنية من أقرانهم وأصدقائهم. هذه المعطيات تدفعنا للاهتمام بهذه الفئات المؤثرة، فنسعى ليكون هذا التأثير إيجابيًا ليساعد في اختيار التخصص الدراسي والمهني المناسب للفرد بما يخدم المجتمع. وتتمثل مشكلتنا في المجتمع القطري ليس في البطالة، وإنما في عدم القدرة لدى الغالبية من الشباب على تحديد تخصصاتهم الجامعية، واختيار المسار المهني الذي يتناسب مع قدراتهم وميولهم، والذي يستطيعون من خلاله الإنتاج والإبداع وخدمة الوطن.

ومع إدراكنا أن طلبة اليوم محاطون بالتكنولوجيا المتطورة من كل حدب وصوب، فلا بد من تقديم التوجيه المهني بشكل تفاعلي وجذاب، لاستقطابهم وجذبهم إلى الطرق الصحيحة لاختيار المسارات المهنية الأمثل

واليوم، في الوقت الذي يتحتم علينا جميعًا البقاء في المنزل لحماية مجتمعنا من تفشي هذا الفيروس، فإنني أدعو الشباب لعدم إهدار وقتهم وحسن الاستفادة منه في تطوير أنفسهم وصقل مهاراتهم. فهناك العديد من الأدوات والوسائل الإلكترونية المتاحة أمامهم في العالم الافتراضي، إلى جانب كمٍ هائلٍ لا حصر له من مصادر المعلومات وآلاف الدورات المجانية والمدفوعة، وكل ما عليهم هو أن يُحسنوا الاختيار.

إن الأزمة الراهنة أثبتت أن التعلم لم يعد مقتصرًا على السنوات التي نقضيها في المدرسة أو الجامعة، فمهما كان عمر الفرد أو مستواه العلمي والمهني، يجب ألا يتوقف عن إثراء معارفه وتطوير مهاراته الحالية حتى يصبح قادرًا على القيام بمهام عمله على أكمل وجه. وفي عصر الثورة المعرفية والتكنولوجية التي نشهدها الآن، لا يوجد أي عذر لكي يهمل الإنسان تطوير نفسه. فالتطوير الشخصي والمهني هو بداية النجاج للشباب الواعد، واستكمال لمسيرة نمو الوطن وصون رفعته وعزته.