إدارة الاستدامة: المهندسة بدور المير

إذا كنت متابعًا للأخبار اليومية في أي مجال، فلا بد أنك سمعت من قبل عن مصطلح “الاستدامة”. ولكن هل تعلم معناه ومدى أهميته لمستقبل الجنس البشري؟

يسود الاعتقاد بأن الاستدامة ترتبط فقط بحماية البيئة، ولكنها في الواقع تشمل ركيزة اجتماعية وأخرى اقتصادية لا تقلان شأنًا. يتضح ذلك من خلال التعريف السائد لها وهو: “تلبية احتياجات الأجيال الحالية دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتهم مع ضمان التوازن بين حماية البيئة والجدوى الاقتصادية والعدالة الاجتماعية”.

في خمسينيات القرن الماضي، بدأ التعاون الدولي من خلال الأمم المتحدة للبحث عن حلول لمواجهة التلوث البيئي والحفاظ على الموارد الطبيعية في كوكب الأرض. ولكن على الرغم من أن كل المؤشرات كانت تؤكد أن تأثير البشر السلبي على البيئة سيعيق عمليات التنمية على كافة الأصعدة، لم يتفق قادة العالم على حلول لمعالجة أبرز المشكلات التي تواجه دولهم وتهدد مستقبل الأجيال المقبلة إلا في مطلع الألفية الجديدة!

كان ذلك بداية لبلورة مجموعة أكثر وضوحًا تشمل 17 هدفًا ضمن ركائز الاستدامة الثلاث؛ البيئية والاجتماعية والاقتصادية، قامت بنشرها الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 2015، وعرفت باسم أهداف التنمية المستدامة. وتسعى دول العالم للعمل معًا من أجل تحقيق تلك الأهداف بحلول عام 2030 .

ربما تدرك مدى أهمية أهداف التنمية المستدامة، إذا علمت أن سكان العالم في خمسينيات القرن الماضي كانوا أقل من ثلاث مليارات نسمة، في حين تجاوز العدد الآن سبع مليارات! لم يشكل ذلك فقط ضغطًا على الموارد الطبيعية مثل المياه والطاقة والغذاء، بل أدى أيضًا إلى زيادة نسب التلوث البيئي وتفاقم ظاهرة تغير المناخ مع كل ما صاحبها من كوارث طبيعية مثل حرائق الغابات والتصحر. ولذلك تبدو الاستدامة السبيل الوحيد لحماية كوكب الأرض وجعله مكاًنا صالحًا للعيش وبناء مستقبل أفضل للأجيال المقبلة.

دعا كل ذلك الحكومات إلى ترسيخ أهداف التنمية المستدامة ضمن سياساتها واستراتيجياتها الوطنية كدليل على التزامها بتحقيقها. كما أصبحت هناك ضرورة لسن القوانين الضامنة لتحقيق تلك الأهداف، وبالتالي شرعت المؤسسات والشركات في تأسيس برامجها الخاصة بالاستدامة، ولم تصبح تلك البرامج فقط جزءًا مهمًا من مسؤوليتها الاجتماعية، بل في أحيان كثيرة ضرورة تسويقية! فالأجيال الشابة باتت أكثر وعيًا بمدى تأثير استهلاكها لأي منتج أو خدمة على النظام البيئي، وأكثر انجذابًا نحو العلامات التجارية التي تتخذ ما يمكن أن نطلق عليه المسار الأخضر، والذي تحرص من خلاله على أمور مثل الحد من التلوث البيئي وحماية الحياة البحرية والبرية والاعتماد على مصادر الطاقة النظيفة.

وتبذل دولة قطر جهودًا حثيثة لدعم أهداف التنمية المستدامة على المستوى المحلى والدولي، حيث يبدو ذلك جليًا من خلال حرصها على مواءمة نتائج وأهداف استراتيجيتها للتنمية الوطنية مع أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة.

كما كان لحصولها على حقوق استضافة بطولة كأس العالم لكرة القدم دور بارز في تسليط الضوء على الاستدامة وتعريف المجتمع بأهميتها، حيث تبنت اللجنة العليا للمشاريع والإرث استراتيجية استدامة هي الأكثر شموًلًا في تاريخ البطولة، وطبقت معايير غير مسبوقة للتنمية الاجتماعية والبشرية والاقتصادية والبيئية شكلت من خلالها إرًثا لا بد أن يستفيد منه منظمو البطولات الرياضية الكبرى في المستقبل.

مع اتساع مجال الاستدامة وربطه بين علوم البيئة والهندسة والاجتماع والإدارة والاقتصاد، أضحت هناك خيارات عديدة لبناء مسيرة مهنية فيه. ويتضح ذلك من خلال الطلب المتزايد على الوظائف المتعلقة به في مختلف القطاعات خلال السنوات الأخيرة، حتى أن العديد من القطاعات أصبح فيها ما يسمى بالوظائف الخضراء التي يقوم العاملون فيها بتحقيق ما يلزم لضمان حماية البيئة وتحسين جودتها.

وتختلف مهام مدير الاستدامة من مؤسسة لأخرى بحسب طبيعة النشاط وحجم المشاريع، ولكنها بشكل عام تشمل تخطيط وتطوير استراتيجية الاستدامة داخل المؤسسة، وتنفيذ المبادرات والبرامج المرتبطة بها، ثم مراقبة مؤشرات تقدمها وتقييم نتائجها، مع ضمان التزام المشروعات بالجدوى الاقتصادية والأخذ في الاعتبار تأثيرها على المجتمع.

إذا أردت أن تعرف ما إذا كانت الاستدامة مجالًا مناسبًا لك، اقرأ المزيد عن أهداف التنمية المستدامة والركائز الثلاث للاستدامة، وابحث عن الوظائف المتعلقة بالاستدامة على موقع لينكد إن للتعرف على المهام المنوطة بكل منها ومدى ملاءمتها لطموحاتك وأهدافك المهنية.

يُعد ماجستير العلوم في البيئة المستدامة الذي تقدمه جامعة حمد بن خليفة من أفضل برامج الاستدامة المتاح دراستها في دولة قطر. مدة البرنامج عامان، وهو يركز على الموضوعات المتعلقة بالبيئة المستدامة، بما في ذلك تأثير التنمية البشرية والتلوث والنمو السكاني على البيئة.

 

المهندسة بدور المير

المدير التنفيذي لإدارة الاستدامة

اللجنة العليا للمشاريع والإرث

تخرجت من كلية الهندسة في جامعة قطر بدرجة بكالوريوس في الهندسة الصناعية، وهو مجال يرتبط ارتباطًا وثيقًا بهندسة الميكانيكا، ثم عملت بعدها لأكثر من سبع سنوات في قسم الصحة والسلامة والبيئة في شركة “أوكسيدنتال”، التي تنشط في مجال النفط والغاز. من خال عملي في هذا القسم، أصبح لدي اهتمام بمجال حماية البيئة والتنمية المستدامة، واكتسبت خبرات في التعامل مع المتطلبات الصارمة للتصاريح البيئية والتعامل مع الجهات الحكومية وحماية البيئة، مع ضمان الجانب التشغيلي والتجاري من المشروعات.

كان لعائلتي دور مهم في تشجيعي على دراسة الهندسة، ورغم أنني كنت أفكر في البداية أن أدرس مجاًلًا يمكنني من استغلال قدراتي الإبداعية والفنية بشكل أكبر، أدركت بعد ذلك أن قراري باختيار تخصص الهندسة الصناعية كان الأنسب لي.

كوني امرأة في مجال تقني شكل تحدًيا كبيرًا. في أحيان كثيرة كنت بحاجة لبذل جهد أكبر من زملائي من الرجال لإظهار أنني قادرة على تنفيذ الجانب التقني من المشروع، إلى جانب تولي مسؤولية الالتزام بالميزانية ونطاق العمل وإدارة المشروع. وكنت في أوقات كثيرة أجد نفسي المرأة الوحيدة في الاجتماعات مع صناع القرار والشركاء. تغيرت الأمور كثيرًا الآن، ولكن لا يزال أمامنا كسيدات طريق طويل حتى يتم النظر إلينا كمساهمين متساويين في مكان العمل.

يحمل قسم الاستدامة والبيئة في اللجنة العليا للمشاريع والإرث على عاتقه مسؤولية كبيرة لأن بطولة كأس العالم تمثّل تقاطعًا بين الاستدامة والرياضة وتنظيم الفعاليات. مسؤوليتي الرئيسية هي ضمان التزامنا بتطبيق سياسات الاستدامة الخاصة بكأس العالم. لقد تعهّدنا بأن ننظم أول بطولة كأس عالم محايدة الكربون، وبالالتزام بشروط الاستدامة خلال تصميم الملاعب وبنائها وتشغيلها، وجودة الهواء والمياه والتخلص من النفايات بطريقة مستدامة، مع مراعاة حماية البيئة والمجتمع والثقافة والموارد الطبيعية والإنسان في قطر. بالطبع تم تطبيق ذلك على عدة مراحل، والآن أصبح التركيز بشكل كامل على تنظيم البطولة بشكل مستدام.

من خلال وضع شروط صارمة، نجحنا في إدخال الاستدامة إلى مسار عملية التصميم والبناء، ومن تطوير قطاع الإنشاءات بأكمله في الدولة؛ حيث بات هذا القطاع أكثر قدرة على تأمين المواد الأولية التي تخدم الاستدامة، كما اعتمدت شركات التصميم والبناء إجراءات إدارية واعتبارات تصميمية مستدامة. امتد تأثيرنا كذلك إلى القطاع الخدمي، بسبب المتطلّبات وشروط الاستدامة التي فرضناها عبر قسم المشتريات على موفري الخدمات. بالمحصلة، كان لإدارة مشروع استضافة كأس العالم بشكل مستدام الفضل في منحنا القدرة والدراية اللازمتين لمواصلة اعتماد الاستدامة كبوصلة في أية فعاليات نستضيفها مستقبلًا، ولعلّ هذا أكبر إرثٍ ستتركه هذه البطولة من وجهة نظري.

رغم أن قطاع الاستدامة في قطر حقق تقدمًا هائلًا في السنوات الأخيرة، أعتقد أننا لا نزال في مراحل مبكرة جدًا. ولا شك أننا شهدنا بالفعل الكثير من التغيرات في كافة قطّاعات الدولة عبر رؤية قطر2030، ولكن ما زال أمامنا الكثير من العمل لتحقيق الالتزامات التي تحملها هذه الرؤية. نحتاج في هذا القطاع إلى المزيد من المهندسين ورواد الأعمال وخبراء التنمية الاجتماعية والبشرية، وإلى مديري المشاريع، وخبراء المشتريات، والخبراء الماليين، وخبراء الاتصال. كما أننا بحاجة ماسة لأن يصبّ شبابنا تركيزهم واهتمامهم على حماية بلدنا وكوكبنا من أجل حفظهما للأجيال القادمة.

أكثر ما أحبه في مجال عملي هو أنه يتيح لنا أن نصنع فارقًا حقيقيًا، وأن نترك خلفنا إرًثا تستفيد منه الأجيال المقبلة. إنه مجال يتطور بسرعة وبالتالي هناك دائمًا أشياء جديدة لنتعلمها.

سمو الشيخة موزا بنت ناصر هي مثلي الأعلى. إنها صانعة تغيير حقيقية، وقد ألهمتني دومًا بمشاركتها النشطة في كل ما يتعلق بالتنمية والتعليم والعلوم والمجتمع، واهتمامها بالمجتمعات الأكثر حاجة في جميع أنحاء العالم.

أنصح الطلاب الذين يرغبون في خوض مسيرة مهنية بمجال الاستدامة ألا يتوقفوا عن التعلم مدى حياتهم، فهناك دومًا حلول جديدة وطرق مختلفة للتعامل مع المشكلات ومواجهة تأثيراتها. تحلّوا أيضًا بالصبر، والتزموا بالجد والإصرار. إذا كنتم مهتمين بالعالم والبيئة المحيطة بكم، فإن هذا المجال يبدو خياًرا مهنيًا ممتاًزا بالنسبة لكم.