الطب النفسي: الدكتورة ليلى عبد العزيز آل إسحاق
الطبيب النفسي
الصحة نعمة عظيمة من الصعب تعويضها، لذلك يتوجب علينا الحفاظ عليها. لكننا في الغالب نولي اهتمامًا بصحتنا البدنية ونهمل جانبًا آخر لا يقل عنها أهمية – وهو الصحة النفسية، أي صحة عقولنا، التي قد تكون في الكثير من الأحيان سببًا في اعتلال الجسد. لقد أصبحنا معرضين للضغوط النفسية أكثر من أي زمن مضى بسبب تعقيدات الحياة وتزايد متطلباتها وتسارع وتيرتها. كل ذلك يجعل من الطب النفسي مهنةً بالغة الأهمية لا يمكن الاستغناء عنها في المجتمعات الحديثة.
الطب النفسي فرعٌ من فروع الطب يختص بدراسة وتشخيص وعلاج الاضطرابات النفسية التي قد يتعرض لها الإنسان، سواء بسبب مرض عقلي أو نفسي. وقد اهتم الإنسان بدراسة النفس البشرية منذ قديم الأزل، لكن الطب النفسي بشكله الحديث بدأ في التبلور خلال القرن التاسع عشر في أوروبا والولايات المتحدة، قبل أن يصبح واحدًا من أهم التخصصات الطبية في النصف الثاني من القرن العشرين مع تغير نظرة المجتمع للأمراض النفسية.
وتولي الحكومات في معظم دول العالم اهتمامًا خاصًا للتوعية بأهمية الصحة النفسية، كما تشجع أفراد المجتمع على اللجوء للأطباء النفسيين أكثر من أي وقت مضى، وذلك لوجود دراسات عديدة تثبت العلاقة القوية بين صحة المجتمع النفسية والأداء الاقتصادي للدول. فالاكتئاب مثلا، وهو أحد أكثر الأمراض انتشارًا في العالم، يتسبب سنويًا في خسائر اقتصادية فادحة للعديد من الدول، وذلك بسبب تأثيره على إنتاجية الفرد.
يعتمد الطبيب النفسي في عمله بشكل كبير على الجلسات الكلامية التي يتحدث خلالها مع المريض ويستمع له بهدف تشخيص مرضه وتحديد أنسب طريقة لعلاجه، سواء كان ذلك عبر المزيد من الجلسات أو من خلال وصف عقار معين أو بتطبيق أي طرق علاجية أخرى مناسبة. وقد يطلب الطبيب النفسي أيضًا من المريض إجراء المزيد من الفحوصات الطبية، مثل التحاليل أو التصوير بالأشعة لتشخيص المرض بشكل أدق. وهناك فارق بين الطبيب النفسي والأخصائي النفسي، فالثاني ترتكز دراسته على علم النفس وتحليل سلوكيات الأفراد والمجتمعات، وهو ما يعني أنه ليس طبيبًا، ولكنه قادر على تقييم الحالة النفسية للأشخاص وعلاج سلوكياتهم في معظم الأحيان من خلال الجلسات الكلامية أو المراقبة والتحليل.
ويتميز الطب النفسي بأنه مجالٌ واسعٌ تتاح من خلاله تخصصات متنوعة. على سبيل المثال، قد يفضل الطبيب النفسي التخصص في علاج مشاكل نفسية معينة مثل الإدمان أو صعوبات التعلم، أو علاج فئة عمرية محددة، مثل الأطفال، أو كبار السن، أو المراهقين، أو التخصص في علاج الأسباب البيولوجية المسببة للأمراض النفسية، مثل الفصام أو الاضطراب ثنائي القطب.
مقارنةً بالأمراض الجسدية، يُعد تشخيص الأمراض النفسية أكثر صعوبة، حيث يحتاج الطبيب النفسي لأن يكون صبورًا وقادرًا على التعاطف مع المريض واكتساب ثقته، إلى جانب الإنصات الجيد له والتحدث معه بحرص للوصول إلى أسباب المشكلة. كما يجب على الطبيب النفسي الاطلاع دومًا على كل ما هو جديد في مجال تخصصه ومواصلة التعلم على مدار مسيرته المهنية.
خوض مسيرة مهنية في مجال الطب النفسي، يتطلب في البداية دراسة الطب العام لمدة تتراوح بين أربع وخمس سنوات، يمكن بعدها للخريج دراسة تخصص الطب النفسي.
وكما هو الحال مع معظم المهن الطبية، تتوفر أمام الطبيب النفسي فرص العمل في المستشفيات والمراكز الطبية، أو فتح عيادته الخاصة بعد الحصول على التراخيص اللازمة، كما قد يختار خوض مسيرة مهنية في مجالات مثل التدريس أو الأبحاث.
د. ليلى عبد العزيز آل إسحاق
استشاري الطب النفسي
مؤسسة حمد الطبية
كنت دومًا أرغب في دراسة الطب وأن أصبح أول طبيبة في العائلة. بعد تخرجي في كلية الطب وحصولي على درجة البكالوريوس في الطب والجراحة العامة، التحقت بمؤسسة حمد الطبية لقضاء سنة الامتياز، ثم عملت في قسم الطب النفسي في المستشفى لمدة أربع سنوات. بعد ذلك حصلت على منحة للدراسة في ألمانيا من هيئة التعليم العالي ومستشفى حمد. التحقت بقسم المخ والأعصاب في جامعة هايدلبرج، إحدى أعرق وأقدم الجامعات في العالم، والتي تأسست في أواخر القرن الرابع عشر، ويتوجه إليها سنويًا الطلاب من جميع أنحاء العالم لدراسة الطب، كما أنها خرجت على مدى العقود الماضية العديد من العلماء الذين حصلوا على جوائز نوبل في مختلف المجالات.
واجهت تحديات عديدة خلال الدراسة في الخارج، ولكن بفضل الله ومع الدعم المتواصل من أسرتي نجحت في تجاوزها وتحقيق أهدافي. كان أحد أبرز التحديات ضرورة تعلم اللغة الألمانية لدرجة تسمح لي بالدراسة والعمل في ألمانيا، وقد عملت بجد لما يقارب عشرة أشهر حتى أتقنت اللغة وتجاوزت الاختبارات المطلوبة للالتحاق بالجامعة. كان لقسم التعليم الطبي في قطر أيضًا دور كبير في دعمي ومساعدتي على تجاوز العديد من التحديات التي واجهتها هناك.
خلال فترة الدراسة في ألمانيا، تدربت في مستشفى فيفانتيس في برلين، أحد أكبر المستشفيات هناك، واستفدت كثيرًا من الخبرة التي اكتسبتها من هذه التجربة. كما حصلت على شهادة البورد الألماني المزدوج في الطب النفسي والعلاج المعرفي السلوكي، بالإضافة إلى درجة الزمالة الألمانية في تخصص علاج اضطراب ما بعد الصدمة، وهو من التخصصات النادرة في العالم.
أعمل الآن في قسم الطب النفسي بمستشفى حمد كاستشاري طب نفسي وأخصائي في العلاج المعرفي السلوكي، وهو ما يتيح لي علاج المرضى عبر الأدوية أو من خلال جلسات التحليل النفسي والعلاج المعرفي السلوكي.
لكي تنجح وتتفوق في عملك يجب أن تحبه، وأعتقد أن هذا أحد أهم أسباب نجاحي في مجال الطب النفسي. حيث إنني ما زلت أعمل بنفس الحماس والطاقة التي بدأت بها مسيرتي قبل ما يقارب 20 عامًا. دراسة التخصصات الطبية تحتاج لوقت أطول مقارنة مع دراسة أي تخصص آخر غير طبي، لكن عندما تتخرج ستشعر بالفخر والاعتزاز أنك أصبحت طبيبًا وقادرًا على مساعدة الناس. اختياري لهذا المجال أتاح لي خدمة بلدي ومساعدة أبناء وطني. أشعر بالكثير من الفخر.
العلاقة بين المريض والطبيب النفسي مبنية على الثقة والاحترام المتبادل والسرية التامة. وضع كل مريض هو حالة خاصة بذاتها تتطلب عناية وتركيزًا من أجل مساعدته في معرفة أسباب مرضه، سواء كان نفسيًا أو عقليًا، واستغلال إمكانياته وقدراته للوصول إلى حالة من التوازن النفسي. بحسب تشخيص المرض النفسي أو العقلي، يتم تحديد العلاج المناسب لكل مريض، وقد يكون ذلك من خلال الأدوية أو الجلسات الكلامية النفسية أو أي أساليب أخرى معتمدة.
يتعرض الطبيب النفسي لضغوط نفسية خلال عمله مثل أي شخص آخر في أي مهنة، لكن دراسته لعلم النفس من شأنها مساعدته في التعامل مع مثل هذه الضغوط.
تسببت أزمة كوفيد- 19 في زيادة العبء على قسم الطب النفسي بسبب زيادة حالات القلق والأرق والتوتر والاكتئاب مع تغيير الناس لروتين حياتهم اليومي. ونظرًا لعدم إمكانية حضور المرضى إلى المستشفى في بداية الأزمة، قمنا بتوفير خدمات الاستشارات النفسية عبر الهاتف على مدار 14 ساعة يوميًا لتوفير الدعم النفسي اللازم حتى يتخطى المريض أزمته بسلام. لم تكن تجربة سهلة لكننا نجحنا في تجاوز هذا التحدي بفضل تعاون فريق العمل الكامل والجهود المتفانية التي بذلتها الدولة.
لقد أثبتت هذه الأزمة الحاجة الملحة للمزيد من الأطباء في مختلف التخصصات، وهو ما جعل الكثير من الشباب يفكر جديًا في تعلم الطب. إنه أمر جيد. أشجع الطلاب القطريين على التفكير جديًا في اتخاذ مسار مهني بالمجالات الطبية، فالمؤسسات الطبية في دولة قطر في حاجة لهم. الطب مهنة راقية ونبيلة. أنصح الآباء والأمهات أيضًا أن يغرسوا حب دراسة الطب في أطفالهم وهم في سن صغيرة، لأن ذلك سيُسهِم في تنشئة جيل يحب العلم ويحب مهنة الطب.