ثلاث نصائح للخريجين على مشارف الالتحاق بسوق العمل

السيد عبدالله أحمد المنصوري – المدير التنفيذي لمركز قطر للتطوير المهني

يتخرج آلاف الشباب هذه الأيام من مختلف جامعات الدولة، حاملين معهم آمالهم وطموحاتهم إلى سوق العمل، متسلحين بالعلم والعزم على تحقيق أحلامهم وترك بصمتهم على مسيرة تطوّر الوطن. وبينما تتطاير القبعات في الهواء احتفالاً بالشهادة الجامعية، تعلو معها التوقعات والأحلام بما سيكون عليه الغد، وكيف سترتسم ملامح المستقبل.

ولكن، في غمرة السعادة التي تكتنف الخريجين وعائلاتهم بهذه المناسبة، لا بد وأن تنشغل أذهانهم بالتفكير فيما سيأتي، وبما سيفعلون انطلاقًا من هذه النقطة. ولأن كل نهايةٍ هي بدايةٌ لما يتلو، نطرح هنا- كمتخصصين في التوجيه المهني- نقطة نظام ضرورية لتوجيه شبابنا وتعريفهم بأساسيات الحياة المهنية التي تنتظرهم.

فهؤلاء الشباب يتخرجون في مرحلة تعد حرجةً على مستوى العالم أجمع، تتواصل خلالها الجهود لتخطي تداعيات جائحة “كوفيد-19″، والتي تسببت بتغيرات جمة في ديناميكيات سوق العمل وبوتيرة أسرع من المتوقع، وهو ما يمكن أن يزيد ارتباكهم في التحولات الحياتية التي يعيشونها.

بدايةً، يمكن لحماس الخريجين أن يوهمهم بأن الحصول على وظيفة مجزية تتسق مع طموحاتهم سيكون سهلًا ومباشرًا فور الحصول على شهادة التخرج؛ لكن التجارب العملية علمتنا أن مرحلة البحث عن العمل هي من أهم المراحل في حياة أي خريج، فما بالك بخريجي عام 2023 الذين يلتحقون بسوق العمل في فترة يمكن وصفها بالنعمة والنقمة؛ فهي نقمة من حيث ما يُتوقع أن يشهده الاقتصاد العالمي من اضطرابات هائلة خلال السنوات الخمس المقبلة، خصوصًا مع تراجع الاقتصادات الرائدة عالميًا، وتزايد تبني التقنيات الجديدة مثل الذكاء الاصطناعي وغيرها، وهو ما يشير إليه بوضوح تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي الذي انعقد مطلع العام الحالي. حيث توقع المنتدى أن يشهد سوق العمل العالمي خسارةً صافية في الوظائف قدرها 14 مليون وظيفة بحلول عام 2027، أي ما يعادل 2٪ من حجم العمالة الكلية الحالية، وهو في ذات الوقت نعمة لأن دولة قطر وضعت نفسها في مصاف أكثر الدول استقرارًا من حيث النمو الاقتصادي، فكانت من أكثر الدول صمودًا وأسرعها تعافيًا من آثار جائحة كوفيد-19 بحسب وكالة برايس-واترهاوس-كوبرز الدولية.

ويتوقع البنك الدولي نموًا اقتصاديًا لقطر هو الأسرع في دول مجلس التعاون الخليجي للأعوام 2023 و2024، بمعدل 4.5% و4.4% على التوالي؛ إذًا فالتحدي يكمن في تطوير المنهجية التي يقارب بها شباننا وشاباتنا سوق العمل وخطواتهم الأولى نحوه وفيه، لا في خلق الفرص الهادفة والمثمرة للخريجين، فسوق العمل عامرٌ بها، والبيئة الاقتصادية في قطر خصبةً للغاية.

ويأتي هنا دور المستشارين والمرشدين المهنيين المؤهلين، ليقدموا مشورتهم وخدماتهم، وليساعدوا الخريجين على التخطيط لمساراتهم المهنية، وعلى التأقلم والتعامل مع أي تعقيدات أو تغيرات تطرأ ضمن هذه العملية؛ فالإرشاد المهني السليم كفيلٌ بمساعدة الشباب على المطابقة ما بين اهتماماتهم ومهاراتهم وقدراتهم مع المهن والأعمال المتاحة، ومع الاحتياجات المتنامية والمتغيرة لسوق العمل ولمسار التنمية المستدامة في دولة قطر،  كما يعينهم على اختيار أهدافهم المهنية، وتطوير استراتيجيات ناجعة للوصول إليها، ويربطهم بسوق العمل عبر التواصل مع المحترفين المخضرمين في المجال الذي يهمهم، ليتعرفوا على ماهية العمل اليومي على أرض الواقع، ويختبروا مدى تناسبه مع تطلعاتهم.

ولذلك، نطرح هنا ثلاث نقاط أساسية يجب على الخريجين الجدد إدراكها والتركيز عليها:

 أولا، التخطيط الصحيح: أي أن يرسم الشخص مساره المهني آخذًا بعين الاعتبار المكان الذي يرى نفسه راغبًا بالوصول إليه في العمل، من حيث تفضيله لمجالات أو قطاعات بعينها على أخرى. فالتخطيط المهني هو عملية مطولة ومستمرة، تنطوي على تحديد أهداف وغايات حياتك المهنية، ومن ثم إيجاد المسار الأنسب لتحقيقها. ولضمان أن يكون الخريج على المسار الصحيح، يتعين عليه متابعة تقييم تقدمه، وإجراء الأبحاث الكافية عن مساره المهني والمؤهلات والتعليم المطلوبين له، ومن ثم اتخاذ القرارات الأمثل بشكل مستنير. وكذلك يجب أن يأخذ بعين الاعتبار خلال هذه العملية القيم الشخصية التي تهمه، وسمات شخصيته، ومهاراته ورغباته، ليفهم ما يحفزه، ويتجنب الإرهاق الناجم عن الاجتهاد في مجال لا يجذبه. كما تتضمن عملية التخطيط السليم إجراء بحث مفصل حول القطاعات الاقتصادية ومجالات العمل المتوفرة في الدولة، واتجاهات سوق العمل المستقبلية، والمهن الصاعدة أو التي يتزايد الطلب على مختصيها، لئلّا تكون جهوده في نهاية مساره الأكاديمي دون طائل.

فعلى سبيل المثال، إذا كان الخريج مهتمًا بأحد قطاعات مجال العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات المعروفة بالستيم (STEM)، فقد تتضمن عملية التخطيط المهني السليم البحث عن فرص التدريب الداخلي أو ورشات العمل المعنية بهذا المجال حتى قبل أن يتخرج ليختبر توافقه مع هذه المهن، وموائمتها لتطلعاته الشخصية وقيمه. ومن ثم يجب أن يجري أبحاثًا حول المهن المتنوعة التي يشتمل عليها مجال “الستيم”، كالمهن في التخصصات الهندسية العديدة، وعلم وهندسة الحاسب، وتحليل البيانات وغيرها، ليعرف المؤهلات المطلوبة لكل منها وأيها يقع في متناول يده وضمن إطار اهتماماته. ومن ثم تُختتم العملية بعملية اتخاذ القرار المهني كأن يختار تخصصًا جامعيًا يتعلم من خلاله الرياضيات مثلًا، وأن يتابع تقدمه في هذا المجال باستمرار ليصحح مساره إن استلزم الأمر.

ثانيا الاستثمار المستمر في تطوير الذات: المعرفة لا تقف عند حدود الشهادة الجامعية، بل يلعب التعليم المستمر دورًا رئيسيًا في المحافظة على المستوى المطلوب من الكفاءة، وفي تطوير مهارات جديدة تساعد على التأقلم مع الاحتياجات المتغيرة والسريعة لأي وظيفة في يومنا هذا، وأيضًا في الحصول على فرص عمل أفضل وارتقاء سلم التطور المهني. والتسارع التقني والتكنولوجي الذي تشهده بيئة العمل اليوم دليلٌ على أهمية التعليم مدى الحياة؛ حيث باتت مهن اليوم تستدعي باستمرار مهارات أكثر تخصصًا وأعلى دقةً، مثل الابتكار والإبداع واستخدام التكنولوجيا المتقدمة والذكاء العاطفي والتفكير التحليلي والنقدي، وغيرها الكثير.

ولذلك، أنصح الخريجين الجدد بالاستفادة من مصادر التعلّم المفتوحة الكثيرة والمتنوعة. فاكتساب الخبرات خارج النطاق الأكاديمي لا غنىً عنه، وسيعلّمهم الكثير من المهارات التي لا يمكن استقاؤها من الكتب والمناهج في التعليم التقليدي. ويمكن أن يكون ذلك من خلال برامج الاعتماد الأكاديمي المصغرة (Micro Credentials)، أو الدورات التي تُعقد عبر الإنترنت. ويمكن أيضًا المشاركة في الأنشطة والفعاليات التي تقدمها الجهات التعليمية والثقافية والتدريبية المختلفة لاكتساب الخبرات وتطوير المهارات، ومنها الأنشطة التي ننظمها في مركز قطر للتطوير المهني خصيصًا لتطوير مهارات وقدرات الشباب المهنية والشخصية.

ومن الجدير بالذكر أن الصبر والاستمرارية سمتان أساسيتان يجب على الخريج أن يتحلى بهما حتى بعد أن يجد العمل الذي يطمح إليه، فالأشياء الجيدة تحتاج إلى الوقت، والسير خطوةً بخطوة دون التعجل بحثًا عن الترقيات سيتيح للخريج التشبع من المعارف والخبرات التي تتيحها كل مرتبةٍ وظيفية، والتي يتعين عليه اكتسابها ليكون مؤهلًا بحق للارتقاء في السلم الوظيفي.

ثالثا، إتقان مهارة إجراء مقابلات العمل: وذلك لإظهار مزاياهم الشخصية وإثبات قدراتهم على شغل الوظيفة المستهدفة. وهذه مهارة مهمة بشكل خاص، لكونهم يخرجون إلى سوق عمل أكثر تنافسية من أي وقت مضى، لا سيما مع الانتشار الواسع للتكنولوجيا، وتعاظم الحاجة لكوادر وطنية محترفة قادرة على أداء كل المهام المطلوبة منها. فأحد العوامل التي تؤدي إلى إهدار الموارد والوقت بالنسبة لأصحاب العمل هي التبدل المستمر في الأطقم المتخصصة، وما يتلو ذلك من الحاجة لتدريبها وإعدادها واستثمار الوقت والجهد في ذلك. إذًا ستلعب قدرة الخريجين على تقديم أنفسهم ومهاراتهم على أنها تخدم السياق الذي يحتاجه صاحب العمل دورًا حاسمًا في نيلهم الوظيفة التي يحلمون بها من عدمه.

وعلى الرغم من الإنذار الذي يطلقه حديثنا عن تأثر بعض الوظائف بتطبيقات تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتحديدًا فيما يتعلق بالوظائف التي تتطلب مهارات منخفضة، فإن بإمكان الذكاء الاصطناعي أيضًا خلق مجالات وظائف جديدة في قطاعات البرمجة وتحليل البيانات والروبوتات والتصميم والتطوير، ما يعزز سوق العمل في قطر بترسانة من المحترفين المبتكرين، والمستعدين لمتابعة عملية التنمية المستدامة في الدولة مستخدمين أحدث إمكانات عالم اليوم الرقمي. كما يمكن تسخير الذكاء الاصطناعي، وما شابهه من تقنيات الغد، في تطوير العديد من الصناعات في الدولة، مثل النفط والغاز والبيع بالتجزئة وخدمات التمويل والخدمات اللوجستية. أي باختصار يمكن أن يؤدي إلى تحسين كفاءة العمل، وتحسين الأداء والنمو الاقتصادي بما لا يقاس بالنمو التقليدي.

وبمعنى آخر، فإن قدرة هذه التقنيات على الإسهام إيجابًا في اقتصادنا الوطني وتعزيز سوق العمل في قطر مرهونةٌ تمامًا بتوفر التدريب والتأهيل المناسب للعمالة الحالية والمستقبلية، حتى تتمكن من التأقلم معها والاستفادة من فرص العمل الجديدة التي يمكن أن تخلقها.

وضمن إطار الخدمات التي يقدمها مركز قطر للتطوير المهني للخريجين، والتي صممناها لتعزز النصائح المذكورة أعلاه ولتعين الخريجين على تطبيقها. فنقدم مثلًا دليل تخصصاتٍ شامل، هو الأول من نوعه على مستوى دولة قطر، ويشمل جميع التخصصات الجامعية التي تقدم ضمن حدود الدولة وشروط القبول فيها، بالإضافة إلى معلومات اتصال الجامعات، وأقسامًا متخصصة بالنصح والإرشاد فيما يتعلق بكل تخصص جامعي. ونقوم أيضًا بجهد بحثي يهدف إلى استشراف ما ستكون عليه تخصصات المستقبل: فنظمنا مثلًا جلسة نقاشية عبر الإنترنت عن “وظائف المستقبل ٢٠٤٠”، استضفنا خلالها عدة خبراء للحديث عن المهن التي سنحتاجها مستقبلًا، مثل الذكاء الاصطناعي والروبوتات وقيادة الطائرات بدون طيار، ووصولًا إلى البيانات الكبرى والأمن السيبراني. ومثل هذه الجلسات والنقاشات من شأنها إعطاء أولياء الأمور والمرشدين المهنيين وغيرهم ممن لديهم دور كبير في إرشاد وتوجيه أبنائنا صورة أوضح عن المشهد المستقبلي لسوق العمل واحتياجاته، حتى يتسنى لهم إعداد وتوجيه أبنائهم بالصورة التي تناسب تلك الاحتياجات وتضمن لهم حياة مهنية ناجحة ومستدامة.

كما أننا في مركز قطر للتطوير المهني نجمع الشباب مع أشخاص متخصصين عبر جلسات الاستشارات المهنية الافتراضية، والتي يدخل أبناؤنا إليها محملين بهواجسهم وأسئلتهم واستفساراتهم، ليطرحوها على خبراء الإرشاد والتوجيه والتطوير المهني الذين يزودونهم بكل المعلومات التي يحتاجونها، سواء حول سوق العمل، أو حول اكتشاف المهارات والميول الشخصية وغيرها. ونقدم أيضًا العديد من الفعاليات الشبابية، مثل القرية المهنية، التي جمعت في نسختها الأخيرة ممثلين عن أكثر من 14 قطاع في الدولة، وحرصنا فيها على استضافة شخصيات تعمل في مختلف هذه التخصصات، وخاصة في القطاعات غير التقليدية، مثل القطاع الطبي أو قطاع الطيران، لمشاركة تجاربهم مع الشباب، وتوضيح أي لبس يمكن أن يتكون لديهم عن مهنة ما.

واليوم، فإن نصيحتي للخريجين في زمن “شات جي بي تي” هي ألا تستعجلوا ولا تُحبطوا؛ لكن لا تتقاعسوا وتستسلموا للعالم المتغير أيضًا؛ فكل تغيّرٍ يحمل بين طياته أوجهًا إيجابية وسلبية. تحلّوا بالروية والتنظيم، وقدّموا أنفسكم وما تزودتم به من مهارات بشكلٍ لائق لتحققوا ما تصبون إليه. وتذكروا دائمًا أن اختياراتكم المهنية، كما اختياراتكم الأكاديمية، سترسم ملامح مستقبلنا جميعًا، فكونوا على قدر آمالنا ولا تتوقفوا عن طلب العلم ولا تتوانوا عن طلب النصيحة ويد العون.