محمد العتيق: مسيرة مهنية لافتة في مجال الفن

محمد العتيق

مسيرة مهنية لافتة في مجال الفن

الفن هو أوكسجين الحياة“.

بهذه الكلمات بدأ الفنان القطري محمد العتيق حديثه معنا عندما وجهنا له سؤالاً عن معنى الفن بالنسبة له. والإجابة ليست مفاجئة فالعتيق يُعد واحدًا من أبرز الفنانين التشكيليين القطريين خلال العقود الأخيرة، حيث عرضت أعماله في أبرز المعارض الفنية بجميع أنحاء العالم، كما نال العديد من الجوائز وتم تكريمه من قبل العديد من المؤسسات الخليجية والدولية.

من خلال السطور التالية سنتعرف على مسيرة الفنان المخضرم في عالم الفن التشكيلي، وسيحدثنا عن أبرز المحطات في مشواره وأهمية الفن في حياتنا، إلى جانب رأيه في مستقبل الفن التشكيلي في قطر ونصائحه لكل من يرغب في السير على خطاه.

موهبة مبكرة

يعود الفضل في اكتشاف موهبة محمد العتيق لأساتذته في المدرسة، فقد كان يجيد الرسم، ومع تشجيعهم له ومؤازرة أسرته غير المحدودة، استطاع تطوير قدراته على مدار الأعوام التالية وبدأ يجتهد ويبحث ويتعلم كل ما يتعلق بالفنون، قبل أن يشارك في بعض المسابقات وينجح في الفوز بها.

“اقتنعت حينها أن مسيرتي المهنية يجب أن تكون في الفن، لكني لم أكن أريد أن أصبح رسامًا فقط، أردت أن أكون فنانًا قادرًا على ابتكار أعماله الخاصة. كان الأمر بمثابة تحدٍ شخصي لي، فقد توفى والدي وأنا في المدرسة، وكان من أكبر المشجعين لي، فأردت تنفيذ وعدي له بأن أصبح فنانًا يرفع اسم قطر في العالم”.

“طورت نفسي بنفسي من خلال تعلم الفن في المراكز الفنية والقراءة والسفر وزيارة المعارض والمتاحف وحضور المهرجانات الفنية والندوات النقدية. كنت حريصًا على الاطلاع على كل ما هو جديد في مجال الفن، وقد أثرى ذلك معرفتي وثقافتي ومنحني زخمًا بصريًا صنعت من خلاله فني الخاص في وقت لاحق”.

اتجه الشاب الطموح إلى تعلم برامج التصميم الرقمي والرسومات المتحركة، وقام بتأسيس قسم الجرافيك في تلفزيون قطر عام 1991، فكان هذا المجال الجديد وسيلةً جديدةً له من أجل الوصول إلى الجمهور من خلال نوع مختلف من الفن. إلا أنه

على الرغم من النجاح الذي حققه خلال عمله في تلفزيون قطر، لم ينس أبدًا حلمه بأن يكون فنانًا تشكيليًا عالميًا يمثل قطر في معارض دولية، فاستمر في تطوير موهبته الفنية وإقامة المعارض المحلية، حيث يقول عن هذه الفترة: “عملي في مجال الجرافيكس في التلفزيون تطلب تعلم برامج التصميم الرقمي والرسومات المتحركة وتطوير نفسي فيها، وهذا الكم من المعلومات والخبرات والمعرفة التقنية العالية أثر في أعمالي الفنية، ونجحت في تطبيق بعض التقنيات والخدع التي تعلمتها من الجرافيكس في أعمالي لكي أقدم نوعًا مختلفًا من الفن للجمهور”.

عتيق 99

كان هذا هو عنوان المعرض الذي أقيم عام 1999 في حديقة البدع وشكل نقطة تحول حقيقية في مسيرة العتيق، حيث عَرض خلاله ما يقارب 50 عملً فنيًا لاقوا استحسانًا كبيرًا من الجمهور الذي بدأ يعرفه كفنان مجرب يسعى لتقديم كل ما هو جديد ويحرص على خوض تجارب مختلفة من أجل وضع بصمته في الفن التشكيلي القطري.

وبعد سنوات من العمل الجاد، أقيم أول معرض شخصي للفنان القطري في إيطاليا عام 2002، ثم توالت بعدها مشاركاته في معارض دولية عديدة من بينها “بينالي البندقية”، أحد أشهر المعارض الفنية في العالم، ليدخل مرحلة جديدة من النضج الفني ويتوج بالعديد من الجوائز التي كان أولها خلال “بينالي دكا” في بنغلاديش وسط مشاركة من 1500 فنان من جميع أنحاء العالم.

وإلى جانب عمله في تلفزيون قطر، ترأس العتيق الجمعية القطرية للفنون التشكيلية خلال الفترة من 2006 إلى 2013، حيث بدأ مهمة جديدة في إدارة “ريجنسي للفنون”، وهي مؤسسة خاصة غير ربحية هدفها رعاية الفن ودعم الفنانين في قطر والعالم.

بذلت المؤسسة جهودًا كبيرةً خلال الأعوام الماضية لجذب الفنانين القطريين وتطويرهم وتثقيف المجتمع بأهمية الفن من خلال تنظيم ندوات وورش عمل ضمت فنانين شباب من شتى أنحاء قطر.

وكان من أبرز تلك الجهود تنظيم “سيمبوزيوم الأصمخ الدولي للفنون” بشكل سنوي في الدوحة. وتعتبر هذه الفعالية متلقىً فنيًا دوليًا يجمع الفنانين من جميع أنحاء العالم في مكان واحد للعمل على صناعة فنهم وتنظيم ورش العمل والندوات، مانحًا إياهم فرصة التعرف على أساليب وتجارب بعضهم البعض. وشكل هذا الحدث فرصة ثمينة للفنانين الشباب في قطر من أجل الاستفادة من خبرة الفنانين العالميين دون تكبد تكاليف وعناء السفر إلى أحداث مماثلة في الخارج.

كما لاقي “سيمبوزيوم الأصمخ الدولي للفنون” شهرةً عالمية بفضل توفيره تسهيلات غير مسبوقة للفنانين للحضور من جميع أنحاء العالم والمشاركة فيه، ليحصل على جائزة “أفضل سيمبوزيوم دولي” من مؤسسة بصمات للتنمية في المغرب. كما حصل العتيق على لقب “سفير السلام والثقافة” من منظمة جسور السلام والثقافة في ولاية كاليفورنيا الأمريكية، بفضل جهوده كمنسق عام ل “سيمبوزيوم الأصمخ الدولي للفنون”.

ويرى العتيق أن دور القطاع الخاص في تطوير الفن مهم للغاية، وأن تطوير الفن التشكيلي في دولة قطر سيأتي من خلال تنظيم المزيد من الورش الفنية والمحاضرات والندوات الدولية، علاوة على وجود المزيد من المبادرات من قبل القطاع الخاص التي تهدف إلى رعاية الفنانين ودعمهم.

ورغم تأثير أزمة كوفيد- 19 التي منعت تنظيم هذا الحدث السنوي وتسببت في توقف أنشطة المؤسسات الأخرى، يثق العتيق أن الأمور ستتحسن في المستقبل، ويقول: “على مدار التاريخ تعرض الفن والفنانون لتحديات وأزمات كبيرة ونجحوا في تجاوزها. أتمنى أن تعود الأمور لطبيعتها سريعًا وأن ننظم مجددًا المعارض وورش العمل، فالفن بإمكانه أن يلعب دورًا كبيرًا في تعافي المجتمع من آثار أزمة كورونا”.

الفنّ في حياتنا

يؤمن الفنان المخضرم أن الخبرات والتجارب هي من تصنع الفنان، فالفنان التشكيلي يعتمد على فكره، وحين تتراكم تجاربه في الحياة ومشاهداته وقراءاته وتختمر في عقله ووجدانه، يعمل على إخراجها على شكل مشروع فني، مثل لوحة أو منحوتة أو غيرها من الأعمال.

ويوضح أن: “الفن التشكيلي يشمل قنوات متعددة ومفتوحة. إنه أكثر من مجرد رسم. الأمر اختلف عن الماضي، فالفنان لا ينجح بسبب امتلاك مهارة الرسم فقط، بل يعرض فكرة أو مجموعة من الأفكار. حتى العروض أصبحت معاصرة وليست تقليدية. لقد تغير كل شيء”.

كما يعتبر العتيق أن للفنان دورًا مهمًا في تثقيف الجمهور من خلال عرض أعمال جديدة مختلفة عما هو تقليدي تثقفهم وتدفعهم لرفع مستوى فكرهم. وقد حمل أحدث معارضه، الذي أقيم في مبنى “مطافئ” خلال شهر أبريل الماضي، عنوان “انتباه”، واستخدم خلاله خامات بسيطة من المخلفات لتقديم أعمال فنية يسلط من خلالها الضوء على خطورة المخلفات على البيئة ومستقبل الأرض.

ويؤمن العتيق أن الفن يمثل جزءًا مهمًا للغاية من حياة كل شخص، لكن البعض قد لا يدرك ذلك. وأضاف أن: “الفن يحيط بنا من كل جانب، إنه في كل مكان حولك. في البيت هناك تصميم داخلي وألوان للحائط وإضاءة، فالتصميم الداخلي فن. وعندما تخرج تركب سيارتك التي صممها فنان. ثم عندما تنظر حولك ترى الشارع والأرصفة والأشجار والحدائق والمباني، وهناك لمسات فنية في كل ذلك. يمكنك أن تلاحظ الفن أيضًا في تصميم هاتفك المحمول والتطبيقات التي تستخدمها”.

وخلص إلى أنه: “باختصار، نحن نعيش في حالة فنية منذ استيقاظنا وحتى خلودنا للنوم ونستمتع بها، حتى لو لم نكن نلاحظ ذلك. تخيل لو لم يكن كل ما ذكرته موجودًا، أعتقد أننا قد نصاب بالاكتئاب”.

ويأمل العتيق في إبداع عمل فني يبقى للتاريخ في دولة قطر، لذا فهو يعمل حاليًا على مشروع مجسم فني يسعى لتحقيق هذا الهدف من خلاله، كما أنه يطمح لأن يقوم بدور في تدريب الأجيال المقبلة من الفنانين المحليين.

مستقبل مبشر

يرى العتيق أن مستقبل الفن التشكيلي في قطر يبدو مشرقًا مع اهتمام الدولة بالمتاحف والمعارض الفنية ووجود مؤسسات تشجع الفنانين، مثل هيئة متاحف قطر، إلى جانب مؤسسات تعليمية راقية، مثل جامعة فرجينيا كومنولث كلية فنون التصميم في قطر. بيد أنه يفضل أن تكون الأولوية هي الاهتمام بالنشء والبحث عن المواهب في مختلف مناطق قطر وتطويرها، حيث يقول: “أتمنى عودة المراكز الفنية في مختلف المناطق، مع تخصيص بعضها للفتيات، فمن خلال مثل هذه المراكز تعلمت الفن وكنت أحد خريجيها. كان هناك اهتمام كبير بالبحث عن الموهوبين في مختلف المجالات في المدارس، وحرص كبير على رعايتهم وتوفير كل سبل الراحة التي تضمن حضورهم للمراكز والأندية وتطوير مواهبهم”.

“كان كل مركز يغطي منطقة محددة، وبالتالي لم يكن الأطفال في الخور أو الوكرة في حاجة لقطع مسافة للحضور إلى الدوحة، وكان الأمر مريحًا لأولياء الأمور. أعتقد أننا في حاجة لعودة هذه المراكز، مع مراعاة أن تواكب العصر وتلبي احتياجات أجيال المستقبل، فلا يقتصر الأمر على تعليم الرسم، بل يتم تعليم فنون معاصرة، مثل النحت والرسوم المتحركة وتصميم الجرافيك وغيرها من الفنون المطلوبة الآن”.

كما يعتبر الفنان الخبير أن تعريف وتثقيف الأطفال بأهمية الفن من شأنه أن يصنع أجيالًا من الفنانين القطريين. وفي سياق ذلك يقول: “أبناؤنا أصبحوا يقضون الكثير من الوقت في ممارسة ألعاب الفيديو وتصفح الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي بدون هدف حقيقي. علينا أن نحرص على تعريضهم لجميع ألوان الفنون وهم في سن مبكرة، ومنحهم الفرصة لاستكشافها. فالأطفال لديهم روح المغامرة والخيال الواسع ولا يشعرون بالخوف من تجربة ما هو جديد”.

“أتذكر أنني قابلت فنانة شابة ناجحة وقالت لي أنها بدأت الاهتمام بالفن عندما حضرت معرض “عتيق 99 ” وهي في الثانية عشرة من عمرها. شعرت حينها بالكثير من السعادة والفخر”.

ويرى العتيق أن فرصة الجيل الحالي في خوض مسيرة مهنية في مجال فني أسهل بكثير مقارنة بما واجهه جيله، ويتذكر تلك الأيام بقوله: “كانت أيامًا جميلة، لكن لم تكن هناك رفاهية التكنولوجيا، ولم تكن هناك وسائل تواصل اجتماعي لكي يعرفنا الناس من خلالها. كل المواد أصبحت متاحة أكثر من أي وقت مضى. في تلك الفترة، كانت الإمكانيات بسيطة وكنا نستخدم الفاكس لإرسال سيرتنا الذاتية، أما الآن أصبح بإمكانك إرسال ملف رقمي يضم كل معلوماتك وتفاصيل أعمالك عبر تطبيق “واتساب”.

أما عن نصائحه لأي شخص يرغب في امتهان الفن فهي كالتالي: “في البداية لا بد أن تمتلك الشغف بالفن وأن تحب هذه المهنة، لأنها ليست سهلة، حيث ستواجه خلالها تحديات وستحتاج لبذل الكثير من الجهد. كما أن عليك أن تحدد لنفسك هدفًا وتعمل على الوصول إليه. والأهم أن تكمل المسيرة من حيث انتهى الفنانون الآخرون، ولا تبدأ من الصفر، لأن ذلك سيختصر عليك عشرات السنوات”.