تطور مفهوم الأمية : اعتناق التعلم مدى الحياة لمجاراة العصر الرقمي

خضع مفهوم الأمية خلال العقود الماضية لتحول جذري حتى تجاوز معناه تعريفه التقليدي الذي اعتمد في السابق على الجهل بالقراءة والكتابة والحساب البسيط. وإدراكًا من منظمة اليونيسكو لأهمية هذا التحول، تحتفل المنظمة باليوم الدولي لمحو الأمية يوم 8 سبتمبر من كل عام تحت شعار “جهود محو الأمية في عالمنا المتغير: حجر الأساس نحو مجتمعات مستقرة وتنمية مستدامة”. واتسعت حدود المفهوم الجديد للأمية لتشمل مجموعة أوسع من المهارات الرقمية، والتي فتحت الباب لإمكانية تضمين التكنولوجيات المتقدمة حتى في المستقبل.

في هذا المقال يحدثنا محمد الكبيسي، مسؤول البرامج والخدمات المهنية بمركز قطر للتطوير المهني، عن تطور مفهوم الأمية والأهمية المتجددة لجهود محو الأمية في العصر الرقمي، والدور الحيوي يلعبه التعلم مدى الحياة والتطوير المستمر للمهارات في تمكيننا من التكيف مع هذه المستجدات.

توسع آفاق الأمية: ما وراء الكلمة المكتوبة

تطورت الأمية، كما تعرفها منظمة اليونسكو، لتكون أكثر من معيار ثابت يقتصر على الجهل بأساسيات القراءة والكتابة فقط، وأصبحت بالتالي عملية محو الأمية سلسلة ديناميكية ومستمرة من تعلم وإجادة جوانب متنوعة من مهارات التواصل واكتساب المعرفة على مر الحياة، وهذا التعريف يعكس تغيرًا عميقًا في فهمنا للأمية، حيث بتنا ندرك أنها جزء من مجموعة أكبر من المهارات الضرورية لتحقيق النجاح في العالم الحديث.

الأمية الرقمية

أحد العناصر الجديدة الرئيسية في التعريف الحديث هو الأمية الرقمية. أي أن يفتقد الشخص الإلمام بأساسيات الأدوات الرقمية وألا يتقن استخدام الأجهزة والبرمجيات الرقمية بفعالية، بالإضافة إلى قصوره عن فهم كيفية التفاعل مع المشهد الرقمي بمجمله. ويقتضي محو الأمية الرقمية ليس فقط إتقان المهارات آنفة الذكر، بل وأيضًا القدرة على تقييم المعلومات المتاحة على الإنترنت من حيث المصداقية، وحماية الهوية والخصوصية الرقمية، واستخدام الأدوات الرقمية للتواصل والبحث وحل المشكلات. ويمكن أن تكون عواقب الأمية الرقمية خطيرةً، حيث قد يجد الأفراد صعوبة في الوصول إلى المعلومات، أو المشاركة بشكل فعال في الاقتصاد الرقمي، أو التفاعل مع محيطه باستخدام أشكال الاتصال المعاصرة.

الأمية الإعلامية

في عصر ما بعد الحقيقة الذي نعيشه اليوم، والذي يشهد تدفقًا غير مضبوط للمعلومات ومن مصادر متعددة، اكتسبت جهود محو الأمية الإعلامية أهمية كبيرة. حيث تضمنت هذه الجهود تحصين الفرد بالقدرة على تحليل وتقييم المحتوى المقدم في مختلف وسائل الإعلام، بما في ذلك مقالات الأخبار ومقاطع الفيديو ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي. ويمكّن محو الأمية الإعلامية الأفراد من التمييز بين الحقائق والأكاذيب، واكتشاف التحيز والتلاعب، وبالتالي اتخاذ قرارات مستنيرة في حياته عامةً. ويمكن أن تكون عواقب الأمية الإعلاميةضارة، حيث قد يقع الفرد ضحية للمعلومات الخاطئة أو الدعاية أو الأخبار الزائفة، مما يمكن أن يؤدي إلى تبعات اجتماعية واسعة النطاق.

الأمية في مفاهيم الاستدامة

مع التحديات العالمية التي نواجهها اليوم في تغير المناخ واستنزاف الموارد والانقسامات الاجتماعية وغيرها، اتسع تعريف الأمية ليشمل الجهل في قضايا التنمية المستدامة. وبات محو الأمية في الاستدامة يقتضي فهم الارتباط المعقد بين القضايا العالمية، إلى جانب فهم دور الأفراد في بناء مستقبل مستدام. ويمكن أن تكون عواقب الأمية في الاستدامة خطيرة، حيث تؤدي للمزيد من التدهور في سلامة البيئة، وإلى تفاقم الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية.

الأمية في المواطنة العالمية

تؤكد المواطنة العالمية على أهمية فهم وقبول التنوع في الثقافات والآراء والقضايا العالمية المختلفة. وتشجع الأفراد على أن يصبحوا مواطنين عالميين مسؤولين ومستنيرين يمكنهم أن يسهموا بشكل إيجابي في عالم غني التنوع ومتصل أكثر من أي وقت مضى. ويمكن أن تشمل عواقب الأمية في المواطنة العالمية حصول مساوئ فهم ثقافي يمكن تجنبها، وتفشي العنصرية، وتضائل المجال المتاح للتعاون الدولي والدبلوماسية.

المهارات المتعلقة بالمهن

بالإضافة إلى المهارات الواسعة المذكورة أعلاه، يمتد تعريف الأمية أيضًا إلى توفر المهارات المحددة المطلوبة للنجاح في مجال مهني ما من عدمه. فمع تطور الصناعات وزيادة استخدام الأتمتة الآلية، يجب على الأفراد أن يطوروا مهاراتهم بشكل مستمر للبقاء منافسين في سوق العمل. وسنتوسع في مناقشة هذه النقطة لاحقًا في هذا المقال.

التكيف المستمر والتعلم

إن إدماج هذه التكنولوجيات الناشئة في جهود محو الأمية يؤكد مجددًا على ضرورة التكيف مع هذه التغيرات والتعلم المستمر. وسيحتاج الأفراد نتيجة لذلك إلى اكتساب مهارات جديدة والبقاء على اطلاع بأحدث التطورات التكنولوجية. فمحو الأمية في المستقبل لن يكون إنجازًا ثابتًا أو صفةً، بل سيغدو رحلة مستمرة للبقاء على اطلاع بأدوات وأساليب اكتساب المعلومات والتواصل المتغيرة باستمرار.

ولا يمكن في هذا السياق التشديد كفايةً على أهمية التعلم مدى الحياة. حيث يشمل الالتزام بتحديث المعارف والمهارات بشكل مستمر كاستجابة نشطة للتطور السريع تتيح للأفراد التكيف معه والبقاء قادرين على المنافسة وجاهزين للتحديات والفرص التي يقدمها هذا التطور.

أما في سياق سوق العمل، فقد أصبح التطوير المستمر للمهارات ضرورة استراتيجية للموظفين وأصحاب العمل على حد سواء، وسيكون أولئك الذين يستثمرون في تطوير مهاراتهم ومعارفهم مُعدين بشكل أفضل للنجاح.

لقد ساهم التقدم السريع للأتمتة والرقمنة والابتكار التكنولوجي في جعل المهارات التي كانت مرغوبة بشدة يومًا ما غير ضرورية اليوم. حيث حدت الأتمتة من الحاجة لأداء الأعمال الروتينية المتكررة. وفي نفس الوقت يقوم الذكاء الاصطناعي بتطوير الصناعات من خلال دعم عمليات اتخاذ القرار وتحليل البيانات. وبينما تتيح هذه التطورات رفع الكفاءة والإنتاجية في كل القطاعات، إلا أنها تستدعي أيضًا تطوير مهارات جديدة لدى القوة العاملة المسؤولة عنها. وتوجب بالتالي التكيف مع الأدوار التي تكمل وتعين هذه التكنولوجيات، والتركيز على المهام التي تتطلب الإبداع والتفكير النقدي والذكاء العاطفي وحل المشكلات المعقدة – أي المهارات الإنسانية التي لا يمكن أتمتتها أو إنجازها عبر الذكاء الاصطناعي.

علاوة على ذلك، أدت التطورات الرقمية إلى إدخال مفاهيم العمل عن بعد واقتصادات العمل الحر، مما يضيف الكثير من المرونة لعمل الأفراد، ولكنه يقرنها بعدم الاستقرار وعدم اليقين. وفي مجال العمل الحر المتغير باستمرار أيضًا لا يعد التطوير المستمر للمهارات مجرد خيار للتقدم الشخصي؛ بل هو تحدٍ للبقاء اقتصاديًا. ومع تغير نماذج التوظيف التقليدية، غالبًا ما يتعين على الأفراد تنويع مهاراتهم ليتمكنوا من تولي أدوارًا متعددة ضمن بيئات عملهم، واعتناق التعلم مدى الحياة ليحافظوا على أهميتهم بالنسبة لصاحب العمل.

وجهة نظر أصحاب العمل

يدرك أصحاب العمل أيضًا أهمية التطوير المستمر للمهارات في الحفاظ على التفوق والأفضلية التنافسية في بيئة العمل الحديثة. حيث باتوا يدركون أن قوة العمل الكفؤة والماهرة هي أثمن الأصول التي تمتلكها أي شركة، وهي الأداة الأساسية في مجابهة التحديات التي تخلقها الأتمتة والتحول الرقمي والمنافسة العالمية.

ولذلك، سادت القناعة بأن قوة العمل التي تنتهج التطوير المستمر للمهارات هي أكثر مرونة وأفضل تجهيزًا للاستجابة لتحولات السوق والاضطرابات التكنولوجية، والموظفون الذين يحسنون ويوسعون مهاراتهم باستمرار يسهمون في زيادة الإنتاجية والابتكار والكفاءة داخل منظومة. كما يبدون سلاسةً أكبر في التكيف مع التغير في الأدوار والمسؤوليات، مما يجعل من السهل على أصحاب العمل إعادة توجيه المواهب حسب الحاجة لمعالجة احتياجات الأعمال المتطورة.