متلازمة المحتــال – تغلب على نقمة الشعور بعدم الاستحقاق

تغلب على نقمة الشعور بعدم الاستحقاق

متلازمة المحتال، أو ما يسمى في الحياة العملية بالشعور بعدم الاستحقاق، ظاهرة نفسية شائعة وغامضة المعالم والأسباب؛ فهي تجعل المصابين بها يعانون من الشك المستمر والدائم بأنفسهم وبقدراتهم ما يؤدي إلى شعور دائم بالنقص، حتى ولو كانوا أفرادًا منتجين ومبدعين ومن ذوي الإنجازات البارزة.

هذا الشعور المستمر والمُنهِك بالتشكيك في الذات والشعور بأن المرء محتال ولا يستحق المكانة التي حققها، يمتد تأثيره إلى كل مناحي الحياة. والمفارقة هنا أنه مهما كان مدى النجاح والإنجاز الذي حققه الشخص فإن ذلك لا يخفف من حدة شكه وقلقه الدائمين.

سنستكشف في هذه المقالة جوانب هذه الظاهرة السلبية، ونغوص عميقًا في تشخيص “متلازمة المحتال” ليس لتعريفها وحسب، بل لفهم جذور أسبابها واستراتيجيات التعامل معها بشكل صحي وسليم.

لنفهم متلازمة المحتال

متلازمة المحتال هي حالة نفسية معقدة تمس قيمة الفرد وكفاءته وتقلل منها؛ ومن أوضح تجلياتها: الإيمان الطاغي وغير المنطقي بأن ما حققته لا يُعزى إلى قدراتك ومهاراتك على الرغم من وجود أدلة واضحة على نجاحك وكفاءتك.

والغريب في هذه الظاهرة أنها تدفع الأشخاص الذين يتأثرون بها إلى التقليل من إنجازاتهم، وعزوها بدلا من ذلك إلى الحظ أو العوامل الخارجية، مما يخلق حلقة مفرغة من الشك في الذات يزداد مع مرور الوقت بدلًا من أن يتلاشى مع النجاح.

وبناءً على ذلك، يمكن أن تؤدي متلازمة المحتال إلى تفاقم القلق والاكتئاب، وإلى وجود حاجة لا تُقاوَم في السعي نحو الكمال، والذي لن يشعر الشخص بتحقيقه مهما كان حجم الإنجاز.

وهذه المتلازمة لا تميز بين الأفراد؛ فقد تصيب الأشخاص بغض النظر عن أوضاعهم الاجتماعية، أو خلفياتهم العملية والتعليمية، أو مستوى مهاراتهم، أو درجة خبراتهم. وكان الاعتقاد السائد حول هذه الظاهرة أنها تعتري فقط النساء اللائي حققن إنجازات بارزة، خصوصًا في الأوساط المهنية التي يهيمن عليها الرجال، إلى أن شاع تشخيص هذه المتلازمة في فئات أكبر وأوسع شملت الرجال والنساء وفي مختلف مراحلهم التعليمية والمهنية، وبات يُقدر أن حوالي 70٪ من الأشخاص حول العالم عانوا أو يعانون من هذه المشاعر السلبية في مرحلة ما من حياتهم.

متلازمة المحتال وأوجهها المتعددة

المثاليون: يكافح هذا النوع من الأشخاص في السعي الدائم والعبثي خلف الكمال، ويخشون إنتاج عمل غير مثالي يفتضح أمرهم كمحتالين، ويجعل الآخرين ينظرون إليهم كما ينظرون لأنفسهم.

الخبراء: أما أصحاب هذا النمط السلوكي فيعيشون خشيةً دائمةً من ألا يكونوا قد أتقنوا كل جانب من جوانب مهنهم أو تخصصاتهم، مهما اتسعت معارفهم أو طالت خبراتهم فهي لا تبدو كافية أبدًا.

العباقرة الفطريون: يشكك هؤلاء في المقابل بكفاءتهم لأنهم لا يلتقطون المعلومات والمفاهيم بذات السرعة أو الطريقة التي يتلقاها بها الآخرون. وهذا التباين والاختلاف في زمن الفهم يغذيان إحساسهم بأنهم محتالون نتيجةً لاختلافهم.

المنفردون: وهم أشخاص يتنامى عندهم الشعور بالنقص إذا احتاجوا لطلب المساعدة من أي كان، فالاعتماد على الآخرين يثير لديهم شعور الشك بالذات لدرجة كبيرة.

الأبطال الخارقون: وهم الذين يعتقدون بضرورة الوصول إلى ذروة الإنجاز وأعلى المراتب في أي عمل أو دراسة يقومون بها. وبالنسبة لهم يكون أي شيء أقل من أن يكونوا الأفضل عملًا والأكثر التزامًا والألمع نجمًا يجعلهم محتالين وغير مستحقين للثناء.

أعراض متلازمة المحتال

تتجلى هذه الحالة عبر مجموعة متنوعة من الأعراض التي تؤثر بشكل عميق في الصحة العاطفية والنفسية للفرد. وأحد أبرز السمات السائدة بين مصابيها هي عدم القدرة على التقييم الموضوعي والواقعي للكفاءة والمهارة التي يحظون بها. فالأشخاص الذين يعانون من متلازمة المحتال غالبًا ما يجدون أنفسهم عاجزين عن إدراك قدراتهم المميزة ويعانون باستمرار من الشك بالذات ومن الشعور الدائم بالنقص. ويؤدي هذا الميل إلى نمط سلوكي سلبي يقوم على إسناد النجاح إلى عوامل خارجية كالحظ أو الصدفة أو تأثير ظروف خارجية عابرة، عوضًا عن إرجاعها بحق إلى الكفاءة الشخصية والجهد المبذول.

وبالإضافة إلى ذلك، تتضمن أعراض متلازمة المحتال حلقة مفرغة تتشكل من الانتقاد الذاتي الشديد والمكثف والمستمر للأداء، ما يعوق الإنتاجية والقدرة على بذل المجهود، وبالتالي يخلق دورة ردود فعل سلبية تعزز شعورهم بالنقص. ومن السمات الشائعة أيضًا لدى المصابين هي الخوف الدائم من عدم الارتقاء لمستوى التوقعات، سواء كانت تلك التوقعات مفروضة ذاتيًا أو نابعة عن نظرة الآخرين للشخص ولقيمة عمله. وتصبح هذه المخاوف مع مرور الوقت مصدرًا للقلق والإجهاد وتدفع الشخص للسعي وراء الكمال وللتوق المرضي إلى الثناء الخارجي، أي من أقرانهم ومن حولهم.

كما يظهر بعض الأشخاص سلوكًا يوصف بـ “التفوق في الإنجاز” كآلية دفاعية يتكيفون بها مع المشاعر التي تولدها المتلازمة. حيث لا يدخر فائقو الإنجاز جهدًا في أعمالهم للتعويض عن مشاعر النقص التي تعتريهم، ويفرطون في العمل والاستعداد، مما يؤدي إلى الاحتراق الوظيفي وللإجهاد الجسدي والعاطفي. وبالإضافة إلى ما تقدم، تدفع المتلازمة مصابيها لوضع أهداف غير منطقية في نطاقها، ويفرضون على أنفسهم معايير مثالية مستحيلة التحقيق. وهذا يزيد بلا شك من إحباطهم نتيجة عجزهم عن تحقيق هذه المعايير.

الأسباب وسبل التعافي

التنشئة الأسرية: إن أساليب التنشئة الأسرية والتربوية خلال فترة الطفولة المبكرة التي يتبعها أولياء الأمور تلعب دورًا بارزًا في تجنيب الأطفال أو دفعهم نحو متلازمة المحتال. فالحماية الزائدة وتحكم أولياء الأمور بشكل زائد بشؤون أطفالهم، وكذلك البيئات التي لا توفر الدعم للأطفال وتحيطهم بالصراعات والجدل، كلها عوامل تسهم بشكل كبير في تعزيز هذه المتلازمة.

الالتحاق ببيئة جديدة: تفاقم التغيرات في بيئة العمل أو تولي مهام جديدة كليًا قد تكون أحد أسباب متلازمة المحتال، وينطبق ذلك أيضًا على التغيرات في مكان الدراسة أو المسار الأكاديمي. فغالبًا ما تتأجج مشاعر النقص وضغوط النجاح عندما تجد نفسك في ظروف غير مألوفة تستدعي جهدًا أكبر لإثبات الذات.

صفات الشخصية: إن الذين يعانون من تدن بالثقة في النفس والذين ينشدون الكمال هم من الفئات الأكثر عرضة لمتلازمة المحتال. فالضغط المستمر لتقديم أداء خال من الأخطاء، على سبيل المثال، يمكن أن يكثف من الشعور بالنقص لدى هؤلاء.

القلق الاجتماعي: متلازمة المحتال والقلق الاجتماعي غالبًا ما يتداخلان، حيث يمكن أن يشعر الأفراد الذين يعانون من القلق الاجتماعي بالغربة عن محيطهم وبعدم الانتماء، وهو ما يعزز من أعراض متلازمة المحتال ومن الاعتقادات الداخلية لدى الشخص بالنقص نتيجة لهذا الاغتراب الداخلي والخارجي.

إن التأقلم مع متلازمة المحتال هو رحلة معقدة تشمل مزيجًا من التفكير بالذات والدعم العاطفي ومجموعة من الاستراتيجيات العملية الموجهة نحو التغلب على مشاعر الشك والنقص الدائمة. وللانطلاق في هذا المسار نحو الشفاء، من الضروري التصدي لمتلازمة المحتال مباشرة، والاعتراف بوجودها وبالصراع العاطفي الذي يمكن أن تسببه هو الخطوة الأولى نحو الحل.

وكما أسلفنا، الخطوة الأولى في علاج متلازمة المحتال هي كسر طوق الصمت الذي يحيط بالمصابين ومشاركة مشاعرهم مع من حولهم. فإخفاء هذه العواطف والتكتم عليها يؤدي إلى تفاقمها مع مرور الوقت. ومن خلال الانفتاح على من حولك ومناقشة تجاربك ومشاعرك مع أصدقاءك الموثوقين وأفراد عائلتك، أو مع مقدمي خدمات الصحة النفسية، ستفتح الباب لبصيص ضوء يلاشي ظلال الشك بالذات التي تطاردك.

إن بناء الثقة بالنفس وتعزيزها أمرٌ ضروري للغاية في التغلب على متلازمة المحتال، وأحد السبل للقيام بذلك هو أن تصب تركيزك على مساعدة الآخرين. تواصل مع الأفراد الذين يمرون بتحديات مشابهة وأبد لهم تفهمك وقدم دعمك. فمن خلال مساعدة الآخرين في التعامل مع تحدياتهم، يمكنك أن تكتسب منظورًا جديدًا حول تحدياتك الخاصة وتعزيز تقديرك لذاتك تدريجيًا.

وبينما تعمل على استعادة ثقتك بنفسك، من الضروري أن تعيد التفكير في معتقداتك حول كفاءتك وقيمتك. ولكي تفعل هذا، عليك بإجراء تقييم موضوعي وجرد لمهاراتك ومواهبك وإنجازاتك مهما صغرت. وفي الوقت نفسه، اتخذ خطوات صغيرة ومعقولة نحو أهدافك المهنية والشخصية بدلاً من السعي وراء الكمال الذي ينصب لك فخ خيبة الأمل. وركز على التقدم خطوة تلو الأخرى، وعلى أن تحتفي بكل إنجاز مهما صغر حجمه، فكل خطوة هي نصر لك في رحلتك نحو قبول الذات والتعافي من الطعن بالذات.

قضية أخرى لا يمكن التقليل من أهميتها في رحلتك هذه هي إدراك أن مقارنة نفسك بالآخرين يمكن أن تعزز من شعورك بالنقص، لذا من الضروري أن تحول تركيزك من منافسة الآخرين إلى التعاون معهم. انخرط بصدق في أحاديثهم وتفاعلاتهم، استمع لهم، واسع لتعزيز أواصر الارتباط بينكم على أعمق المستويات. وبذلك ستكتشف مع مرور الوقت أنك أيضًا تمتلك صفات فريدة ورؤى قيمة تقدمها تمامًا مثل أي شخص آخر.

وفي عصرنا الرقمي هذا، تشير العديد من الدراسات إلى دور وسائل التواصل الاجتماعي في مفاقمة وتعميق مشاعر النقص. كن حذرًا أثناء استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وتجنب تقديم صورة غير واقعية عن نفسك تعجز عن ملاقاتها، ما يزيد شعورك بالنقص. اقبل شخصك الحقيقي واعطه حق قدره، بعيوبه وصفاته الفريدة. أن تكون صادقًا على وسائل التواصل الاجتماعي يخفف عنك عبء الضغوط الناتجة عن متلازمة المحتال.

ومع كل ما طرحناه أعلاه، ستكون هناك حالات تصل فيها متلازمة المحتال إلى مراحل متقدمة ومعقدة تعيق بشكل كبير حياتك اليومية الشخصية والمهنية وتؤذي صحتك. حينها، لا مناص ولا عيب في استشارة المحترفين من مقدمي خدمات الصحة النفسية. يمكن أن يقدم أخصائيو الصحة النفسية والمرشدون النفسيون استراتيجيات فعالة ومجربة تفيد بالتعامل مع تلك المشاعر، بما في ذلك العلاج السلوكي المعرفي، وهو نهج علاجي مُعترف به وذو نتائج مثبتة علميًا يساعد الأفراد على تجاوز المعتقدات غير المنطقية، وعلى تعزيز الثقة بالنفس وتطوير المهارات العملية الضرورية لقيادة حياة صحية وواثقة.

وفي الختام، متلازمة المحتال هي بالفعل خصم نفسي عنيد، ولكن يمكن التغلب عليها. وككل مشكلة أخرى، نجد أن الاعتراف بوجودها والسعي لتطوير استراتيجيات التأقلم والتعافي منها هي الخطوات الحاسمة التي تفصل بين التغلب على هذا الصراع الداخلي وبين الانصياع له. وتذكروا، متلازمة المحتال لا تميز بين الأفراد؛ بل تؤثر حتى على الناجحين ذوي الإنجازات وعلى غيرهم من جميع الخلفيات. ومن خلال ما أسلفنا من استيعاب ومعالجة أسبابها الجذرية، وتحدي المعتقدات غير منطقية، والسعي للحصول عن الدعم العاطفي والإرشاد النفسي الاحترافي عند الضرورة، يمكن للشخص أن ينأى بنفسه عن هذه المشاعر والبدء بتقدير قدراته حق قدرها. فرحلتك نحو قبول الذات وبناء الثقة بالنفس تبدأ بالاعتراف بأنك أكبر من شكوكك، وأن لديك كل القدرة والإمكانية للتفوق والنجاح.

والآن بعد أن بتم تعرفون متلازمة المحتال وأسبابها، هل تساءلتم يومًا لماذا يبدي بعض الأشخاص أعراضًا معاكسة تمامًا لهذه المتلازمة، وتجدونهم يعلنون بثقة خبرتهم في مجالات لا يتقنون فيها حقيقةً سوى النذر اليسير؟ في مقال لاحق سننشره حول نفس الموضوع، سنعرفكم على ظاهرة جديدة تُعرف بتأثير “دانينج-كروغر” (Dunning-Kruger Effect) والتي يبالغ أصحابها في تقدير قدراتهم ومعارفهم ويرسمون صورة مقنعة ولكن مضللة حول كفاءتهم، وتقود المتأثرين بها لأن يكونوا الأكثر ثقة في ادعاءات قدراتهم!