استثمار إرث بطولة كأس العالم: طريقكم نحو النمو المهني

بقلم: عبدالله المنصوري، المدير التنفيذي لمركز قطر للتطوير المهني

ثم ماذا بعد؟ السؤال الذي شغل البلاد عقب انتهاء مونديال قطر 2022، الذي نال تصنيف أفضل بطولة من نوعها في القرن الحادي والعشرين وفق استطلاع رأي أجرته هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”.

تتعدد أوجه الإجابة عن هذا السؤال، وأبسطها أن قطر ستستضيف عشرات البطولات الرياضية العالمية والإقليمية، والمؤتمرات والمعارض، ومختلف الفعاليات التي سيتسنى لنا أن نسخر كل ما تعلمناه في الفترة الماضية لإنجاحها، خاصةً وأن الخبرات التي راكمناها لا تقتصر على تنظيم الفعاليات بمختلف أشكالها، بل تتعداها إلى تجربة امتدت على مدار عقد من الزمان أمضيناه في إنشاء البنى التحتية، الملموسة والمعنوية، المعقدة والمتطورة، التي تخدم بشكل مثالي أي جهد لاستضافة حدث عالمي رياضي، أو ثقافي، أو سياسي. ولا ريب أن تصدرت الدوحة ترتيب أفضل المدن الرياضية على المستوى العربي، والترتيب الـ 19 عالميًا من وكالة “بيرسون كون أند وولف”، في شهادةٍ على تمكّنها من استضافة الأحداث الرياضية الكبرى، بناءً على تحليل المشهد الرقمي والإعلام الرياضي واستطلاعات الاتحادات الدولية.

إلّا أن سؤال “ماذا بعد؟” يقتضي منّا إجابات أعمق مما تقدّم، لا تتوقف عند التغنّي بما حققنا حتى الآن، أو التنبؤ بمستقبل مزدهر للقطاعات السياحية والخدمية واللوجستية ولمساعينا في تنويع الاقتصاد القطري وفق رؤية قطر الوطنية 2030؛ فالجميع مؤمنٌ بأننا على قدر المسؤولية الملقاة على عاتقنا. بل لنجيب عن هذا السؤال، يتعيّن علينا أن نفكّر في كيفيّة الانتقال بكلّ ما جمعنا من خبرات وتجارب إلى مرحلة ما بعد المونديال، لتكون الإرث التنموي والمعرفي الذي هدفت إليه في المقام الأول استضافة دولة قطر لهذا الحدث الرياضي الأول من نوعه في المنطقة العربية.

فالتميز القطري الذي شهده العالم أجمع في الفترة الماضية، أتى حصيلة سنوات طوال من التخطيط والتحضير والتدريب، وأخرج جيلًا كاملًا من الشباب المتمكن الذي اكتسب خبرة لا تقدّر بثمن خلال فترة المونديال اعتلى خلاله القطريون رأس الهرم التنظيمي للبطولة، مستفيدين من التعليم المتطور، وتوفير البرامج التدريبية الميدانية والشهادات المتخصصة، والخبرات المتراكمة فـــي مجال صناعـــة الفعاليات وإدارة الأزمات.

وفي معرض الحديث عن نقل الخبرات، أتاح تضافر الجهود المؤسسية بين القطاعين العام والخاص لشريحة واسعة من المهنيين ذوي الخبرة في مجالاتهم فرصة الاجتماع وتبادل الخبرات والمعارف. فعلى سبيل المثال، شكّلت اللجنة العليا للمشاريع والإرث، بأطقمها الفنية الخبيرة، ملتقىً لنخبة من المهنيين العاملين في قطر، مواطنين ومقيمين، ممن عملوا سابقًا على مشاريع كبرى أخرى في مجالات الرياضة والثقافة والسياسة والإعلام والتكنولوجيا وإدارة المشاريع، وغيرها؛ فكان هذا الملتقى منبرًا لتشبيك المواهب واستثمار تعاونها في صناعة نجاح المونديال وتنفيذه على النحو المبهر الذي شهدناه.

أما الآن، وبعد أن أكملت اللجنة العليا للمشاريع والإرث أعمالها بنجاح، فيمكن لكوادرها العمل في مختلف مؤسسات الدولة، ليغنوها بتجاربهم الثرية في مواجهة التحديات، وتنسيق الجهود، ومشاركة ما اكتسبوه من معارف عبر العمل مع الخبرات الدولية المساهمة في تنظيم البطولة. وعلى المؤسسات أن تستغل هذه الفرصة الذهبية وأن تعمل على تبنّي آليات التطوير المهني، كالدورات التدريبية والندوات، لتسمح للكوادر التي عادت إلى مواقعها الوظيفية في مختلف المؤسسات قبل البطولة أن ينقلوا تجاربهم لزملائهم. وتندرج هذه المقاربة تحت مسمّى “تعزيز المهارات” للقوة العاملة الحالية، والتي من شأنها تحقيق تقدّم نوعي في إنتاجية وكفاءة القوة العاملة بحسب التوصيات التي توصّل إليها خبراؤنا في لقاء شركاء التوجيه المهني للعام 2022.

ولا تقتصر هذه الفرصة على الموظّفين المنتدبين للعمل في الهيئات الرسمية المنظمة للحدث، بل هناك كوادر انضمت لركب البطولة لم تكن تعمل ضمن منظومة مؤسسية، حيث احتضنها برنامج التطوّع الذي رافق مجريات الاستعداد لكأس العام، الذي ضم أكثر من عشرين ألف متطوّعٍ، شاركوا في مختلف أوجه العملية التنظيمية، بما يمكن اعتباره أضخم برنامجٍ للتطوير المهني سنواصل قطف ثماره لعقود مقبلة. وتعدّ الخبرة التي اكتسبها هؤلاء المتطوعون رافدًا أساسيًا للقوى العاملة متنوعة الخلفيات والخبرات، والضرورية للتنوع الاقتصادي السليم الذي نعمل لأجله جميعًا. فكل تقدّم يبدأ من الخبرات التي يكتسبها أبناؤنا في أي مجال، ويعودون بها إلى محيطهم الاجتماعي والأكاديمي والعملي لتطويره، ومشاركتها مع نظرائهم؛ وبذلك، تنتقل المعارف وتتداولها الأجيال وتبني عليها للمستقبل.

كما لا ننسى الذين عملوا بصفة شخصية أو ضمن مشاريع متناهية الصغر، عماد كل اقتصادٍ متقدّم سليم، والذين وضعتهم استضافة البطولة في دولة قطر على المسار السريع نحو النمو والازدهار، وأتاحت لهم استعراض قدراتهم في ريادة الأعمال وكسب حصصٍ لا يُستهان بها في الأسواق المحلية. فلا يخفى على أحد الدعم السخي الذي قدمته الوزارات والمؤسسات والمصارف لحضانة المشاريع الناشئة والصغيرة، ونعلم أيضًا أن هذا الدعم لا يقتصر على مرحلة ما قبل البطولة، بل هو توجه استراتيجي متعلق برؤية قطر الوطنية وبتحقيق التنوع الاقتصادي المستدام. وبالتالي، فإن الفرصة التي أتاحتها استضافة البطولة هي فقط بداية الطريق، ويجب الاستمرار باحتضان الابتكار وتنميته، ودعم المشاريع الصغيرة لتحقق إمكانياتها الفعلية وتتوسع من المحلية للإقليمية والعالمية، أسوةً بالشركات التي استثمرت في إنجاح استضافة البطولة وبالتالي في نجاحها الخاص.

بالإضافة إلى ذوي المواهب والاهتمامات الفنية الذين أثروا تجربتنا وتجربة كلّ من شاهد مجريات البطولة بأجمل الشعارات، والتصاميم، واللوحات الطرقيّة، ومختلف الأعمال الفنيّة كالأغنية والملصق الرسميان لبطولة كأس العالم فيفا قطر 2022. كثيرٌ من هؤلاء المبدعين عملوا بصفة تطوعية، والكثير من الإنتاجات الفنية المتعلقة بالبطولة جاءت من طلبة الجامعات المختلفة في الدولة. ولهذه الفئة أقول إن  قِلة من الفنانين والموهوبين حول العالم تتاح لهم فرصة عرض إبداعاتهم أمام جمهورٍ بحجم وتنوّع جمهور بطولة كأس العالم، وأنّ عليهم البناء على هذا الوصول الواسع لأعمالهم وإنتاجاتهم لا الاكتفاء به؛ حيث يجب بدايةً أن يوثّقوا مساهماتهم الفنيّة عبر تضمينها وتبنّيها في علاماتهم الشخصية (Personal Brand)، كما يمكن أن تساعدهم هذه التجربة في تعميق فهمهم عن ميولهم الفنية، والتوجهات العملية التي يرغبون في اتخاذها كفنانين مبدعين، والانطلاق إلى عالم العمل بشبكة علاقات مهنية متنوّعة قوامها الأشخاص والشركات والمؤسسات التي شاركوا معها ومن خلالها في وضع بصمتهم الفنية على المونديال.

وختامًا، أوصي فئات المهنيّين الذين أخصهم بالذكر في هذا المقال، بأن يبقوا أعينهم على الاتجاهات المستقبلية وديناميات التغير في سوق العمل، سواء المحلية في قطر، وحتّى الدولية؛ وذلك نظرًا لأهمية التحذيرات التي يطلقها المنتدى الاقتصادي العالمي حول أثر التطور التكنولوجي الذي يُتوقع أن يخلق أكثر من 58 مليون وظيفة شاغرة جديدة بحلول عام 2030، مقابل توقّف أو انقراض 375 مليونًا أخرى، كما ستساهم الأتمتة في خلق 97 مليون وظيفة مستقبلية في مجالات بعضها لا ندرك ماهيته حتى الآن؛ كل ذلك يحتم عليكم المثابرة على تطوير مهاراتكم وقدراتكم، وألا تكتفوا بما اكتسبتموه في هذه التجربة أو تلك، وألّا تفقدوا المهارات التي ميّزتكم في الأساس كالقدرة على تقبل التغيير والتأقلم معه.

لا شك في أن هذه الأرقام سيكون لها انعكاسات بنيوية عديدة على أسواق الأعمال في مختلف الدول، ولا سيما في المنطقة العربية. وهو ما يوجب علينا مواصلة الجهود التي نبذلها في دولة قطر، والبناء على ما أنجزه مركز قطر للتطوير المهني بالتعاون مع الشركاء وجميع الجهات المعنية للاستفادة مما تحقق من حيث تطوير مهارات أجيال شابة قادرة على استيفاء متطلبات التطور المهني ومواكبة التغيرات المتسارعة في عصرنا الحاضر والمساهمة في صناعة المستقبل.