الاستدامة والمهن الخضراء

الاستدامة والمهن الخضراء: احتفل باليوم العالمي للبيئة مع مركز قطر للتطوير المهني

يحتفل برنامج الأمم المتحدة للبيئة باليوم العالمي للبيئة منذ عام 1973، ومنذ ذلك الوقت تُختار دولة في كل عام لتمثل الجهود الدولية في هذا الإطار من خلال استضافة فعاليات متنوعة كالمنتديات والاحتفالات التي تبرز دور الاستدامة وأهميتها في حياتنا.

ووقع الاختيار هذا العام على دولة ساحل العاج لتستضيف الاحتفال بيوم البيئة العالمي في 2023 متخذةً قضية التغلب على التلوث البلاستيكي موضوعًا أساسيًا للمداولات والفعاليات المقرر إجرائها، حيث يشكل اليوم العالمي للبيئة فرصةً مهمة تذكرنا بضرورة الحفاظ على البيئة وضمان استدامتها، ومناسبةً للتأمل في تأثيرنا على الكوكب واستكشاف سبل المساهمة الفردية والجماعية في تأمين مستقبل مستدام للأجيال القادمة.

وفي الوقت الذي يواجه عالمنا تحديات شتى ناجمة عن ظاهرة التغير المناخي، تبزغ شمس مجالات مهنية جديدة استجابةً من سوق العمل لهذا التحدي، ويحتل مجال الاستدامة مكان الصدارة بين تلك المجالات الناشئة لأهميته في التوفيق بين مقتضيات التنمية الاجتماعية والاقتصادية وبين الحفاظ على البيئة، وتُعنى تلك المجالات المهنية الناشئة عامةً، ومجال الاستدامة خاصةً، بالتركيز على حماية البيئة من الآثار السلبية للنشاط الاقتصادي، إلى جانب توفير الخيارات والبدائل التي تعين على اتخاذ القرارات الأسلم للبيئة.

ولا تقتصر الاستدامة على حماية البيئة تحديدًا، بل هي أساسًا منهجية للتعلم من الماضي، والعمل بالشكل الصحيح في الحاضر، والحفاظ على الموارد المتنوعة للمستقبل. ويرسّخ التعريف الذي تبنته الأمم المتحدة للاستدامة هذا الفهم عن دورها في حياتنا، إذ يقول تعريفها المعتمد: “الاستدامة هي تلبية احتياجات الأجيال الحالية دون المساس باحتياجات الأجيال القادمة، وتحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي وحماية البيئة وتوفير الرفاه الاجتماعي”.

والاستدامة لا تتقيد بمجال دون آخر، فتحدياتها تثقل كاهل كافة قطاعات المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، كما أن التزايد المطرد في أعداد السكان يحتل قلب المشكلة، فبينما نستنفذ موارد كوكبنا لتلبية الاستهلاك المفرط والمتزايد، نكافح للتغلب على التلوث بأشكاله، وللسيطرة على ظاهرة التغير المناخي وما يصاحبها من تصحر، وفيضانات وحرائق غابات وغيرها.

وإدراكًا لهذه التحديات، سعت دولة قطر لتكون من الدول الرائدة عالميًا في تبني مبادئ الاستدامة على المستوى الوطني، الأمر الذي يظهر جليًا من خلال رؤية قطر الوطنية 2030 التي تهدف لمواءمة استراتيجيات التنمية الوطنية مع أهداف التنمية المستدامة التي اعتمدتها الأمم المتحدة، ومن ثم تنتهج في مقاربتها للتنمية رؤية شاملة تعطي الأولوية للحفاظ على الموارد الطبيعية للأجيال القادمة، كما تعد مساعي رؤية قطر الوطنية 2030 في الانتقال إلى الاقتصاد القائم على المعرفة محوريةً في الحفاظ على البيئة وترسيخ الاستدامة فكرًا وممارسة في الدولة. ذلك بالإضافة إلى جهود رفع الوعي لدى المواطنين وتعزيز شعورهم بالمسؤولية حول حماية الإرث البيئي للدولة. 

ورأينا العام الماضي تجسيدًا حقيقيًا ومبهرًا لهذه الرؤية على أرض الواقع، حيث انتهجت اللجنة العليا للمشاريع والإرث معايير صارمة تعد جديدةً في تاريخ بطولات كأس العالم من خلال تبني استراتيجية شاملة ومستدامة تشمل التنمية البشرية والاقتصادية والاجتماعية. حيث استبدلت أكثر من 90٪ من المولدات الكهربائية العاملة على الديزل بمحولات كهربائية مربوطة بشبكة التغذية العامة وتوفر طاقة أقل تلويثًا للهواء. كما حرصت الدولة على أن تحصل مراكز الطاقة الكهربائية الخمسة والمسؤولة عن تغذية ملاعب كأس العالم FIFA قطر 2022™ على شهادة كفاءة الطاقة الموسمية من النظام العالمي لتقييم الاستدامة (GSAS). وأصبح بذلك مونديال قطر مثالًا يُحتذى به للقدرة على تعزيز التطور والازدهار دون المساومة في تطبيق معايير الاستدامة.

ويمكننا كأشخاص أيضًا أن نلعب دورًا مهمًا في إبقاء كوكبنا “أخضرًا”، وذلك عبر قراراتنا الأكاديمية والمهنية، أو حتى بشكلٍ غير مباشر عبر تعديل أنماط استهلاكنا واتخاذ قرارات حياتية ويومية أكثر استدامة. فأولئك الذين يدرسون علوم البيئة والهندسة والزراعة والإدارة وغيرها، يلعبون دورًا حيويًا في حماية البيئة وتمكين باقي المجالات المهنية من تبني “الوظائف الخضراء” في عموم القوة العاملة لديها. والوظائف الخضراء هي الوظائف المعنية بتعديل سلوك المؤسسات لتلتزم مسؤولياتها البيئية والاجتماعية، كمديري الاستدامة، ومديري المسؤولية المجتمعية للشركات، ومستشاري الاستدامة، والأخصائيين الفنيين، وغيرهم. ومادامت التحديات البيئية آخذة بالتزايد سنستمر بمشاهدة التطور المتسارع الذي نراه الآن في جميع المهن ذات الصلة بمجال الاستدامة.

ويمكنك على كل حال اتخاذ خطوات عديدة قد تبدو صغيرة لكنها تحدث بالمجمل فارقًا كبيرًا في الصالح العام عندما تصبح نهجًا مجتمعيًا شاملًا. وإليك بعض النصائح التي ستساعدك على الانطلاق في هذا المسار:

  • رشد استخدامك للطاقة: احرص دومًا على إطفاء الأضواء والأجهزة المنزلية عندما تنتهي من استخدامها، واستفد من الإضاءة الطبيعية في النهار، ومن التهوية الطبيعية في فصل الشتاء إن أمكن. كما يجب علينا جميعًا الحرص على شراء الأجهزة والمنتجات التي تأخذ الاستدامة بعين الاعتبار بتصنيعها وباستهلاكها للطاقة. كما يمكن للمهندسين المعماريين مثلًا أن يأخذوا بعين الاعتبار توفير أكبر قدر من الإضاءة والتهوية الطبيعية عند تصميمهم للأبنية والبيوت، أو حتى استخدام المواد العازلة في البناء للتقليل من الحاجة للتكييف في فصلي الصيف والشتاء.

 

  • استخدم المواصلات العامة متى ما استطعت: حاول أن تأخذ الأثر البيئي لوسائط النقل بعين الاعتبار عن تخطيطك للخروج من البيت وفي حياتك الاجتماعية. وتُجمع الدراسات العلمية على أن اعتماد وسائط النقل العامة يحدث فارقًا كبيرًا في جودة الهواء وتقليل التلوث، خصوصًا مع توفر منظومات نقل حديثة مبنية مع أخذ معايير الاستدامة في الاعتبار كمترو الدوحة!

 

  • اعتمد الاستدامة في تنظيم الفعاليات وفي العمل: خطط لفعالياتك المهنية والاجتماعية بشكل مستدام، كأن تستخدم التكنولوجيا الحديثة للتقليل من تحركاتك وتوفر وقتك، وأن تؤدي اجتماعاتك في العمل عبر الإنترنت مثلًا. قد يبدو أثر هذه الخطوة ضئيلًا لك، لكن فكر بعدد الاجتماعات التي تحضرها سنويًا، وتخيل مجموع اجتماعاتك أنت وزملائك وباقي السكان في الدولة.

 

  • رشد استهلاك المياه: إن أحد أهم التحديات البيئية التي تواجهنا في هذا الزمن هو تحد الحفاظ على المياه العذبة. والوعي المجتمعي بأهمية ترشيد استهلاك المياه يعد هدفًا أساسيًا لعدد لا يحصى من الحملات التوعوية حول العالم. ونتيجة لذلك، تتوافر اليوم العديد من الأدوات التي صُممت لخفض استهلاك المياه كصنابير الضغط الهوائي المزودة بحساسات الليزر وغيرها. كما الممارسات البسيطة كأن تحضر زجاجة مياه مخصصة لتبقيها في العمل يقلل استهلاكك من البلاستيك، ويذكرك بشرب المياه باستمرار، ويرسخ ثقافة مستدامة في مكان العمل. ويمكنك دومًا العودة إلى الحملات الوطنية لترشيد استهلاك المياه والكهرباء التي تطلقها “كهرماء”، كحملة ترشيد، للمزيد من المعلومات والنصائح حول كيفية خفض استهلاكك الكلي من موارد الوطن المحدودة.

 

كثيرة هي السبل المتاحة لك للمساهمة وأداء دورك في تحقيق رؤية قطر الوطنية 2030، ولترك بصمتك في الجهد الجماعي والوطني لتحقيق التنمية المستدامة. سواء اتخذت مسارًا مهنيًا يصب في مجال الاستدامة، وجعلتها محورًا أساسيًا في اتخاذ قراراتك المهنية، أو كنت ببساطة تتبع الاستدامة كأسلوب للحياة في حياتك الخاصة والاجتماعية والمهنية، فإن كل هذه الجهود تجتمع نهايةً لتشكل الأثر والإرث الأخضر الذي ترتجيه دولة قطر من أبنائها. فكل منا مسؤول أمام أجيال المستقبل عن حماية البيئة والحفاظ على الموارد لنضمن لهم حياةً كريمةً والرفاه والسلامة الموعودة.