بمناسبة اليوم العالمي للصحة النفسية: نحو فهم أعمق للرفاه الصحي متعدد الجوانب

الدكتور محمد العنزي
أستاذ علم النفس والخبير في مجال الإرشاد والصحة النفسية

يُعَدُّ اليوم العالمي للصحة النفسية فرصة مواتية لنتفكر بأثر حالتنا النفسية على سعادتنا ورفاهنا، ولنعي بأن هذا الرفاه يتجاوز مجرد الإنجاز الأكاديمي والمهني إلى ما هو أشمل وأهم. ويُسلط هذا اليوم الضوء على أهمية اعتناق فهم مركب ومتعدد الجوانب للرفاه الإنساني تلعب فيه الصحة النفسية دورًا مركزيًا يضمن استمتاعنا بتطورنا الأكاديمي والمهني.

وبهذه المناسبة، أجرى فريق مركز قطر للتطوير المهني مقابلة مع أحد الشخصيات الملهمة في هذا المجال: الدكتور محمد العنزي، أستاذ علم النفس والخبير في مجال الإرشاد والصحة النفسية، بهدف إلهام أجيال المستقبل في قطر وحول العالم بأهمية هذا التخصص الحيوي، واتباع نهجهم، وكذلك المسارات المهنية المتنوعة التي قد يسلكونها في هذا المجال.

نهج شامل نحو صحتنا النفسية
تحتفل الأمم المتحدة باليوم العالمي للصحة النفسية كل عام لتحثنا على تأمل الطبيعة الشاملة والمركبة لصحتنا، والتي لا يمكن الاقتصار على رعاية جزء منها دون الآخر. وذلك يتطلب أن ننظر إلى حياتنا كشبكة متصلة تنشأ عن مجموعة من الخيوط ذات المصادر المختلفة، والتي يمثل كل منها جانبًا مختلفًا من وجودنا. فهذا اليوم يأتي كتذكير بوقت ملائم بأن تحقيق الرفاه والحفاظ عليه ليس عاملًا واحدًا، بل هو تمامًا كما في السيمفونيات الموسيقية التي تلعب فيها كل آلة دورها في إنتاج لحن موسيقي متناغم.

يسهل علينا في حياتنا اليومية أن نقصر تركيزنا على أهداف محددة معينة، كالإنجاز الأكاديمي، أو التقدم في مسارنا المهني، أو تحقيق النجاح المالي. وعلى الرغم من أن هذه الأهداف ضرورية بلا شك كأجزاء أساسية من رفاهنا الشامل، إلا أن اليوم العالمي للصحة النفسية يدعونا لأن نأخذ خطوة نحو الخلف، وأن ننظر إلى الصورة الأكبر، لنرى الترابط العميق بين مختلف جوانب حياتنا وكيفية تأثيرها على بعضها البعض.

وفيما يتعلق بتطورنا المهني، للصحة النفسية أثر بالغ يشرحه الدكتور محمد بالقول: “صحتك النفسية هي حجر الأساس الذي يُبنى عليه مسارك المهني. فهي تعطيك القدرة على اتخاذ القرار المناسب بالشكل المناسب، والقدرة على التعامل مع الضغوط، والصمود أمام التحديات”.

وبالفعل كما نلاحظ جميعًا، يصارع العديد منا مع مشاكل نفسية متعلقة بضغوط العمل، سواء كان ذلك بسبب الرغبة المستمرة لتحقيق النجاح، أو الشعور بعدم الاستقرار الوظيفي، أو التحديات المتعلقة بالموازنة بين الحياة الشخصية والمهنية. فإذا تُركت تحديات الصحة النفسية دون علاج، يمكن لها بسهولة أن تعيق تقدم مسيرة الشخص المهنية. وحول هذا يُشير الدكتور محمد إلى أن: “تجاهل تحديات الصحة النفسية خلال رحلتك المهنية يُشبه محاولة بناء ناطحة سحاب على أساس غير مستقر. ستنهار عاجلًا أم آجلًا”.

في اليوم العالمي للصحة النفسية، من الأهمية بمكان أن ندرك أن حياتنا المهنية ليست منعزلة عن صحتنا الشخصية. الصحة النفسية تؤثر على كيفية اقترابنا من أعمالنا، وكيفية تفاعلنا مع زملائنا، وكيفية تنقلنا في تفاصيل مكان العمل. العقل المتوتر والقلق يمكن أن يعوقا الإبداع وقدرتنا على حل المشكلات والرضا الوظيفي.

وعلى صعيد آخر، يمكن أن يكون الوضع النفسي السليم دافعًا هائلًا لتطور الحياة المهنية. ويقول الدكتور محمد في هذا الصدد: “عندما تعطي الأولوية لصحتك النفسية فإنك تستثمر في مستقبلك المهني، وتصبح أكثر قدرة على التأقلم وأقدر على التعامل مع تحديات مكان العمل، وأكثر حماسًا لمتابعة مسارك المهني لا سيما فيما يتعلق بتنمية العلاقات المهنية الصحية التي تُعتبر من أهم عوامل الرضا الوظيفي”.

علاوة على ذلك، فإن الذكاء العاطفي الذي يمكنك من فهم وإدارة مشاعرك الشخصية، ومشاركة الزملاء والمدراء في تجاربهم ومسيراتهم، لهو علامة من علامات النجاح عند المحترفين المخضرمين. وتلعب الصحة النفسية دورًا حاسمًا في تمكين الذكاء العاطفي، مما يجعلها شرطًا حيويًا في التقدم بحياتك المهنية.

الحياة الأكاديمية وتحديات الصحة النفسية
يعي الدكتور محمد أن الحياة الأكاديمية يمكن أن تكون مُرهِقة للغاية. حيث تشتمل على السعي المستمر لاكتساب المعرفة، ومتابعة المواعيد النهائية للتكليفات، والغيرة الطبيعية من تفوق الأقران الذي يمكن أن يكون له أثر سلبي على صحتك النفسية. ومع ذلك، يُشدد على أن “التعلم يجب أن يكون رحلة ممتعة، وليس مصدرًا دائمًا للضغط”

ووسط الضغوط المتزايدة لتحقيق التميز الأكاديمي والمهني، يُؤكد الدكتور محمد بقوة على الدور الحيوي لمستشاري الصحة النفسية في التعامل مع هذه التحديات، مستمدًا من خبرته الواسعة في المجال ليسلط الضوء على دور المرشدين النفسيين قائلًا: “اطلبوا الإرشاد من مستشاري الصحة النفسية والمرشدين النفسيين. دورهم مفيدٌ للغاية ليس فقط للأفراد الذين يواجهون تحديات في الصحة النفسية، ولكن أيضًا لأي شخص يسعى لتجاوز تعقيدات الحياة المعاصرة”. فالمرشدين النفسيين يؤمنون مجالًا آمنًا لكل من يستعين بهم لمناقشة القضايا التي تواجههم ويتمكنوا من إدارة الإجهاد ويطوروا مرونتهم العاطفية.

دور متعدد الأوجه
غالبًا ما يلعب المرشدون المهنيون دورًا متعدد الأوجه في دعم الأفراد خلال رحلتهم نحو تحقيق الرفاهية النفسي والعاطفي. وتمتد خبراتهم إلى ما يتجاوز مجرد معالجة اضطرابات الصحة النفسية؛ فهم يخلقون مكانًا آمنًا لمن يحتاجه كما أسلفنا في سبيل تحقيق الرفاه الشامل. وإحدى الأدوار الأساسية التي يضطلعون بها تكمن في قدرتهم على فتح الحوار الصريح والمباشر مع المستفيدين حول تحديات الصحة النفسية.

ويوضح الدكتور محمد: “في مجتمع يصم تحديات الصحة النفسية بالعار في كثير من الأحيان، يخلق المرشدون بيئة يمكن فيها للأفراد التعبير عن أفكارهم ومشاعرهم دون خوف من إطلاق الأحكام عليهم”. ويفيد هذا النهج القائم على التعاطف بتعزيز الثقة بين المرشد والمستفيد، ويمكّن الأفراد من مواجهة ومعالجة التحديات التي تواجههم بجرأة ودون تردد.

علاوة على ذلك، يزودنا المرشدون النفسيون بالنصح وباستراتيجيات مُصمَّمة خصيصًا للتعامل مع الضغوط المرتبطة بالحياة الأكاديمية والمهنية. لهذا يُشدِّد الدكتور محمد على حساسية دورهم بالقول: “إنهم يساعدون الأفراد على تطوير أدوات عملية للتعامل مع التوتر والقلق ومتطلبات مهنهم أو مساعيهم الأكاديمية الكبيرة. تلك الأدوات تمكّن الأفراد من استعادة الشعور بالسيطرة على مجريات حياتهم ومجابهة تحدياتهم بكل مرونة”.

يسهم المرشدون النفسيون كذلك في مساعدة الأفراد على تحديد الأسباب الكامنة وراء الشعور بالتوتر والقلق، حيث إن العلاج لا يقتصر فقط على معالجة الأعراض، بل يجب أن يتناول العوامل التي تسبب تحديات الصحة النفسية.

التقاطع بين الإرشاد النفسي والمهني
أما في سياق الحياة المهنية، يكمل المرشدون النفسيون دور المرشدين المهنيين في تمكين الأفراد من اتخاذ قرارات مستنيرة. فيقول الدكتور محمد: “عمل المرشدين النفسيين يتداخل مع العديد من المجالات الأخرى. ولعل أهمها هو الإرشاد المهني، حيث يساعدون المستفيد على استكشاف الخيارات المهنية المتنوعة بثقة، وعلى توجيه شغفهم ومهاراتهم لتتسق مع أهدافهم المهنية”. وتخدم هذه الممارسات تعزيز شعور الموظف بالرضا حول مساره المهني وبالمعنى العميق الذي يحمله تطوره المهني، مما يقلل بدوره من خطر الاحتراق الوظيفي والإرهاق، وهما عنصران يسعى الأخصائيون النفسيون لمعالجتهما.

كما أن التداخل المستمر بين الحياة الأكاديمية أو المهنية والحياة الشخصية في حياتنا اليوم يعزز من أهمية دور هؤلاء المرشدين في مساعدة الطلبة والعاملين على إيجاد توازن متناغم بينهما. يوضح الدكتور محمد: “إنهم يوفرون استراتيجيات للحفاظ على توازن صحي بين العمل والحياة الشخصية، مما يمنع انتقال التوتر المرتبط بالمهنة أو الدراسة إلى الحياة الشخصية والعكس بالعكس”. ومن نافلة القول إن هذا التوازن أمر أساسي لتحقيق النجاح المستدام والقابل للتطور.

وفي الختام، سلطت مقابلتنا مع الدكتور محمد الضوء على جوهر اليوم العالمي للصحة النفسية، وعلى التحديات التي تواجهنا في الحياة الأكاديمية والمهنية والدور المحوري للمرشدين النفسيين في معالجتها وفي الحفاظ على منظور متوازن للحياة والصحة ككل. فبينما نحتفل باليوم العالمي للصحة النفسية، دعونا نتذكر أن الصحة لا تعوض، وأن لها جوانب كثيرة ومتنوعة لعل من أهمها الصحة النفسية وتفاعلها مع الصحة الجسدية ومع قدرتنا على العمل والتقدم في حياتنا على كل الصعد ونحو كل الأهداف.

للاطلاع على المزيد حول أهمية الصحة النفسية ودور المرشدين في تعزيزها، واكتساب فهم أعمق وأشمل عن عملهم ومهامهم وكيف تصبحون مرشدين أنفسكم، ندعوكم لمشاهدة سلسلة الفيديوهات التالية على قناة مركز قطر للتطوير المهني على اليوتيوب، والتي تستعرض مقابلتنا الكاملة والملهمة مع الدكتور محمد العنزي، ونستمع فيها لنصائحه وتجاربه: