متلازمة دانينغ-كروجر

متلازمة دانينغ-كروجر

سبر أغوار “الثقة الكاذبة”

مقدمة

النفس البشرية شبكة شديدة التعقيد، إلى حد أنّ التصورات الذاتية قد تتعارض أحيانًا مع الواقع نفسه. وربما تطرأ على هذه الشبكة المعقّدة اضطرابات إدراكية مثيرة تتسم بالتناقض من قبيل متلازمة دانينغ-كروجر، التي تُعرّف بأنها ظاهرة أن يَدّعي المرءُ الخبرةَ في مجالات لا يحسنها ومعرفته بها محدودة. وفي المقابل، نجد عند بعض الناس “متلازمة المحتال”، التي ورد ذكرها آنفًا في مقال سابق، وهي أن يستبدّ ببعض الناس ضعف الثقة في قدراتهم ومؤهلاتهم رغم إنجازاتهم. متلازمة دانينغ-كروجر على نقيض ذلك تمامًا: انخفاضٌ في الكفاءة مع مبالغة في تقدير الإمكانيات، أو باختصار “الثقة الكاذبة”. هيا بنا اليوم نسبر أغوار هذه الظاهرة النفسية، ونقف على أصولها وتجلياتها، ونفهم تأثيرها السلبي العميق في التطور الأكاديمي والمهني، بل والشخصي.

المتلازمة: التاريخ والتعريف

تعرفنا على متلازمة دانينغ-كروجر لأوّل مرة من دراسة أجراها عالمَا النفس ديفيد دانينغ وجاستن كروجر. وأسفرت الدراسة عن تشخيص انحراف إدراكي يُفضي بأصحابه من ذوي الكفاءة المنخفضة في أداء المهام إلى المبالغة في تقدير كفاءاتهم. ومع مزيد من البحث في هذا المفهوم وتطوره، اتّضح أنّه يتجاوز الأطر التقليدية لمفهوم الكفاءة، ويتعداها إلى انفصال كامل بين القدرات المتصورة والقدرات الفعلية للمرء.

ويمكن تعريف هذه الظاهرة، النفسية في جوهرها، بأنها انحراف إدراكي يدفع ذوي الكفاءة المنخفضة بمجال معين إلى المبالغة في تصوّر قدراتهم وثقتهم فيها بشكل لا واعٍ؛ وهذا يعني أن الذين يفتقرون إلى الاحترافية بمهارة أو مجال ما غالبًا ما يكونون أكثر ثقة في قدراتهم، على عكس ذوي الكفاءة العالية الذين نرى منهم إحجامًا وربما ضعفَ ثقة في أنفسهم، وهذا التناقض بدوره يؤثر على التفاعل البشري من أوجه عدة.

ويتجلى تأثير متلازمة دانينغ-كروجر خارج حدود المختبرات والأوراق البحثية في سيناريوهات الحياة اليومية، سواءً فيما يخص اتخاذ القرارات، أم العلاقات الشخصية، وسياق الحياة المهنية، وتؤثر كذلك في التفاعل مع الآخرين، وتؤجج النزاعات؛ بل وتسهم في نشر معلومات مغلوطة أو زائفة، وفي تحوير الخطاب العام على الصعيد المجتمعي. بداية من مكان العمل، ووصولًا إلى الديناميات المجتمعية، يمتد أثر متلازمة دانينغ-كروجر ليشمل شتى مناحي الحياة، ويعيد صياغة فهمنا للعلاقة بين الكفاءة والثقة.

الثقة الكاذبة وأثرها في الحياة الأكاديمية والمهنية

علاوةً على آثارها السلبية في المجالات الحياتية بوجه عام، فإن متلازمة دانينغ-كروجر ذات تداعيات كارثية على المجالات الأكاديمية والمهنية؛ ففي الأوساط الأكاديمية، تبدو على من يعانون منها ثقة مفرطة في حصيلتهم المعرفية، تضعف معها دوافع التعلّم وتحسين الذات والسعي نحو التميّز، وتزيد مقاومتهم للنقد البناء والنصح والإرشاد. أي أنها تعيق التطور الأكاديمي للمصاب بها، والعملية التعلمية بأسرها.

وعلى الصعيد المهني، لهذه المتلازمة تأثير ضار على ذوي الكفاءة الحقيقية، المبتدئين منهم والمخضرمين على حد سواء، إذ يجنح أصحاب الثقة المفرطة في النفس إلى اتخاذ قرارات ذات آثار سيئة يدفعهم إليها فرط ثقتهم في أنفسهم وقدراتهم وإمكاناتهم، وتكون لهذا نتائجه الكارثية على مشروعاتهم ومهامهم، لا سيما وأن أولئك الذين يعانون من هذه الظاهرة يغلب عليهم عزلهم أنفسهم، فيتحاشون سماع آراء زملائهم الأكفأ والأكثر خبرة، من منطلق أن فهمهم، هم أنفسهم، هو الأفضل والأشمل. وهذا، لا شك، يعرقل نموهم الشخصي وقدرتهم على التعاون لضمان النجاح الجماعي للمشروع أو المؤسسة.

التشخيص والعلاج

إن الوقوف على أعراض متلازمة دانينغ-كروجر أمر ضروري لضمان النمو القويم للفرد والجماعة. ولهذه المتلازمة عرضان رئيسان تطرقنا إلى أولهما آنفًا، ومفاده أن المتأثرين بتلك المتلازمة غالبًا ما يسيئون تقدير خبراتهم ومعارفهم، ويبالغون في ثقتهم بأنفسهم، ومن ثم يُعرِضون عن النصح، ويصمّون آذانهم عن النقد البناء، ولا يتعلمون من أخطائهم. أما الثاني، فهو أنهم يميلون إلى الإفراط في تبسيط القضايا المعقدة؛ لقلة درايتهم بعمق المشكلة أو المهمة التي بين أيديهم. والتبسيط في حد ذاته ليس مشكلة خطيرة؛ إلا أنه، في حال جاء في غير موضعه أو كان مبالغًا، قد يفضي إلى قرارات مضللة لا تتسق مع طبيعة المشكلة.

وليس ثمّة دواء سحري للحد من الآثار السلبية لمتلازمة دانينغ-كروجر، شأنها في ذلك شأن سائر الاضطرابات المعرفية، وإنما هناك حلول عملية تقوم على تنمية الوعي بالذات، والاستعداد الحقيقي للتعلم، وتشجيع ثقافة التواضع، وقبول النقد البناء برحابة صدر. وعلى من يشعر بأنه يعاني منها أن يسعى باستمرار للحصول على تقييمات موضوعية من زملائه ومديريه. غير أن الخطوة الأهم في هذا المضمار هي أن يدرك المرء أن رحلة التعلم والإتقان مستمرة لا تتوقف، وعليه ألا يتوهم أنه وصل إلى نهايتها مهما بلغ من تحصيلٍ للعلم والخبرة؛ هذا مفيد في تجنب هذا الانحراف الإدراكي الخطير.

وخلاصة القول: إن لمتلازمة دانينغ-كروجر آثارها السلبية التي تستدعي التحلي بعقلية التطوير المهني المتواصل والتعلم مدى الحياة. إن الكفاءة رحلة، لا نقطة نهاية نصل إليها ثم نركن إلى الكسل والدعة. فالعقلية الإيجابية حجر الأساس للتطور الشخصي والتطور المجتمعي كليهما؛ فمن خلال التحلي بعقلية التعلم المستمر، يتسنى للأفراد أن ينتقلوا من طورٍ إلى طورٍ في حياتهم مزودين بإدراك موضوعي حقيقي لقدراتهم الذاتية وبالتواضع اللازم لنموهم. ومن ثم، فالتطوير المهني والتعلم مدى الحياة ليسا مجرّد ممارسات، بل هما في الأصل اقتناعات وتوجهات تعالج المشكلات والقضايا تلقائيًا، وعلى رأس تلك المشكلات ما يصيب وعينا من حيث لا ندري. وتمهّد هذه الاقتناعات والتوجهات نهجًا أكثر استنارةً وتعاونًا لتطوير المعارف الجمعية وزيادة قدرات القوى العاملة، في إطار رحلة تقدّم مستمرة عبر الأجيال، لا مجرد وجهة عابرة نصل إليها.